الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

قوله تعالى: { فَنِعِمَّا هِيَ }: الفاءُ جوابُ الشرط، و " نِعْمَ " فعلٌ ماضٍ للمدح نقيضُ بئس، وحكمُها في عدمِ التصرفِ والفاعلِ واللغاتِ حكمُ بئس كما تقدَّم فلا حاجَةَ إلى الإِطالة بتكررِهِ.

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي هنا وفي النساء: " فَنَعِمَا " بفتحِ النونِ وكسرِ العينِ، وهذه على الأصلِ، لأنَّ الأصل على " فَعِل " كعَلِم وقرأ ابن كثير وورش وحفص بكسر النونِ والعينِ، وإنما كَسْرُ النونِ إتباعاً لكسرةِ العينِ وهي لغةُ هُذَيْل. قيل: وَتَحْتمل قراءةُ كسرِ العين أن يكونَ أصلُ العينِ السكونَ، فلمَّا وقعتْ بعدَها " ما " وأَدْغَمَ ميم " نِعْم " فيها كُسِرَتْ العينُ لالتقاء الساكنين. وهو محتملٌ. وقرأ أبو عمرو وقالون وأبو بكر بكسرِ النون وإخفاء حركةِ العين. ورُوي عنهم الإِسكانُ أيضاً، واختاره أبو عبيد، وحكاه لغةً للنبي صلى الله عليه وسلم في نحو قولِهِ: " نِعْمَّا المالُ الصالحُ مع الرجلِ الصالحِ "

والجمهورُ على اختيارِ الاختلاسِ على الإِسكانِ، بل بعضُهم يَجْعَلُهُ من وَهْم الرواة عن أبي عمرو، ومِمَّن أنكره المبرد والزجاج والفارسي قالوا: لأنَّ فيه جمعاً بين ساكنين على غير حَدِّهما. قال المبرد: " لا يَقْدِرُ أحدٌ أن ينطِقَ به، وإنما يرومُ الجمعَ بين ساكنين فيحرِّكُ ولا يَشْعُر " وقال الفارسي: " لعل أبا عمرو أخفى فظنَّه الراوي سكوناً ".

وقد تقدَّم الكلام على " ما " اللاحقةِ لنِعْم وبِئْس. و " هي " مبتدأ ضميرٌ عائدٌ على الصدقات على حَذْف مضاف، أي: فنِعْم إبداؤها، ويجوز أَنْ لا يُقَدَّر مضافٌ، بل يعودُ الضميرُ على " الصدقات " بقيد صفةِ الإِبداء تقديرهُ: فنِعِمَّا هي أي: الصدقاتُ المُبْدَاةُ. وجملةُ المدحِ خبرٌ عن " هي " ، والرابطُ العمومُ، وهذا أَوْلى الوجوهِ، وقد تقدَّم تحقيقُها.

والضميرُ في " وإنْ تخفوها " يعودُ على الصدقاتِ. فقيل: يعودُ عليها لفظاً ومعنىً. وقيل: يعودُ على الصدقاتِ لفظاً لا معنىً، لأنَّ المرادَ بالصدقاتِ المبداةِ الواجبةُ، وبالمُخْفَاةِ: المتطوَّعُ بها، فيكونُ من باب " عندي درهمٌ ونصفُه " ، أي: ونصفُ درهمٍ آخرَ، وكقوله:
1080 ـ كأنَّ ثيابَ راكبِهِ بريحٍ   خَرِيقٌ وهْي ساكنةُ الهُبوبِ
أي: وريحٌ أخرى ساكنة الهبوب، ولا حاجة إلى هذا في الآية.

والفاءُ في قولِهِ: " فهو " جوابُ الشرط، والضميرُ يعودُ على المصدر المفهومِ من " تُخْفُوها " أي: فالإِخفاءُ، كقولِهِ:ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ } [المائدة: 8] و " لكم " صفةٌ لخير، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و " خير " يجوزُ أن يكون للتفضيلِ، فالمُفَضَّلُ عليه محذوفٌ أي: خيرٌ من إبدائها، ويجوزُ أن يُرَادَ به الوصفُ بالخيريَّة أي: خيرٌ لكم من الخيورِ.

وفي قوله: " إنْ تُبْدوا، وإن تُخْفُوها " نوعٌ من البديع وهو الطباق اللفظي.

السابقالتالي
2 3