الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }

قوله تعالى: { أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ }: في مفعولِ " أنفقوا " قولان، أحدُهما: أنه المجرورُ بـ " مِنْ " ، و " مِنْ " للتبعيض أي: أنفقوا بعضَ ما رزقناكم. والثاني: أنه محذوفٌ قامَتْ صفتُه مقامَه، أي: شيئاً مِمَّا رزقناكم، وتقدَّم له نظائرُ. و " ما " يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسمية. والعائد محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، أي: كَسَبتموه، وأن تكونَ مصدريةً أي: من طيباتَ كَسْبكم، وحينئذٍ لا بُدَّ من تأويلِ هذا المصدرِ باسمِ المفعولِ أي: مكسوبِكم، ولهذا كان الوجهُ الأولُ أَوْلى.

و " مِمَّا اَخْرَجْنا " عطفٌ على المجرور بـ " مِنْ " بإعادةِ الجارِ، لأحدِ معنيين: إمَّا التأكيدِ وإمَّا للدلالةِ على عاملٍ آخرَ مقدرٍ، أي: وأَنْفقوا مِمَّا أَخْرجنا. ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ، أي: ومن طيباتِ ما أَخْرَجنا. و " لكم " متعلِّقٌ بـ " أخرجنا " ، واللامُ للتعليلِ. و " مِنْ الأرض " متعلِّقٌ بـ " أخرجنا " أيضاً، و " مِنْ " لابتداءِ الغاية.

قوله: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ } الجمهورُ على " تَيَمَّموا " ، والأصلُ: تَتَيَمَّمُوا بتاءين، فحُذِفَتْ إحداهما تخفيفاً: إمَّا الأولى وإمَّا الثانيةُ، وقد تقدَّم تحريرُ القولِ فيه عند قولِه:تَظَاهَرُونَ } [البقرة: 85].

وقرأ البزي هنا وفي مواضع أُخَرَ بتشديدِ التاءِ، على أنه أَدْغم التاءَ الأولى في الثانيةِ، وجاز ذلك هنا وفي نظائِره؛ لأنَّ الساكنَ الأول حرفُ لينٍ، وهذا بخلاف قراءتِهنَاراً تَلَظَّىٰ } [الليل: 14]إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } [النور: 15] فإنه فيه جَمَعَ بين ساكنين والأولُ حرفٌ صحيحٌ، وفيه كلامٌ أهلِ العربيةِ يأتي ذِكْرُه إن شاءَ اللهُ تعالى.

وقرأ ابن عباس والزهري " تُيَمِّمو " بضم التاء وكسر الميمِ الأولى وماضيه: يَمَّم، فوزنُ " تُيَمِّموا " على هذه القراءة:تُفَعِّلوا من غيرِ حذفٍ، ورُوي عن عبد الله " تُؤَمِّموا " من أَمَّمْتُ أي قَصَدْتُ.

والتيممُّ: القصدُ، يقال: أَمَّ كردَّ، وأَمَّمَ كأَخَّرَ، ويَمَّم، وتَيَمَّم بالتاء والياء معاً، وتَأَمَّم بالتاء والهمزةِ، وكلُّها بمعنَى قَصَدَ. وفَرَّق الخليلُ - رحمه الله - بينها بفروقٍ لطيفة فقال: " أَمَّمْتُه قَصَدْتُ أَمامه، ويَمَّمْتُه: قصدْتُ... ويَمَّمْتُه: قصدتُه من أي جهة كان.

والخبيثُ والطيبُ: صفتانِ غالبتان لا يُذْكَر موصوفُهما: قال:وَٱلطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ } [النور: 26]وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ } [الأعراف: 157]، قال عليه السلام: " مِنَ الخُبْث والخَبائث "

قوله: { مِنْهُ تُنْفِقُونَ } " منه " متعلِّقٌ بتنفقون، وتُنْفِقُون في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل { تَيَمَّمُواْ } أي: لا تَقْصِدوا الخبيث منفقين منه، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرةٌ، لأن الإِنفاقَ منه يَقَعُ بعد القصد إليه، قاله أبو البقاء وغيره. والثاني: أنها حالٌ من الخبيث، لأن في الجملة ضميراً يعود إليه أي: لا تَقْصِدُوا مُنْفَقاً منه.

السابقالتالي
2