الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ }

قولُه تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً }: " لا يَسْتَحْيي " جملةٌ في محل الرفع خبرٌ لـ " إنَّ " ، واستفْعَلَ هنا للإِغناء عن الثلاثي المجرد، وقال الزمخشري: " إنه موافق له " أي: قد وَرَدَ حَيِي واسْتَحْيى بمعنى واحد، والمشهور: اسْتَحْيَى يَسْتَحْيِي فهو مُسْتَحْيٍ ومُسْتَحْيى منه من غير حَذْف، وقد جاء اسْتَحَىٰ يَسْتَحِي فهو مُسْتَحٍ مثل: استقى يستقي، وقُرئ به، ويُرْوَىٰ عن ابن كثير. واختُلف في المحذوفِ فقيل: عينُ الكلمة فوزنُه يَسْتَفِل. وقيل: لامُها فوزنُه يَسْتَفِع، ثم نُقِلت حركةُ اللامِ على القولِ الأول وحركةُ العينِ على القولِ الثاني إلى الفاءِ وهي الحاءُ، ومن الحَذْفِ قولُه:
301ـ ألا تَسْتَحِي منا الملوكُ وتَتَّقِي   محارِمَنا لا يَبْوُؤُ الدمُ بالدَمِ
وقال آخر:
302ـ إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ يَعْرِضُ نفسَه   كَرُعْنَ بِسَبْتٍ في إناءٍ مِنَ الوَرْدِ
والحياءُ لغةً: تَغَيَّرٌ وانكسارٌ يَعْتري الإِنسانَ من خوفِ ما يُعاب به، واشتقاقُه من الحياة، ومعنا على ما قاله الزمخشري: " نَقَصَتْ حياتُه واعتلَّتْ مجازاً كما يُقال: نَسِي وحَشِيَ وشَظِيَ الفرسُ إذا اعتلَّتْ هذه الأعضاءُ، جُعِل الحَيِيُّ لما يعتريه مِنَ الانكسارِ والتغيُّرِ منتكسَ القوةِ منتقِصَ الحياةِ، كما قالوا: فلان هَلَك من كذا حياءً ". انتهى. يعني قوله: " نَسِيَ وَحشِيَ وشَظِيَ " أي أصيب نَساه وهو عِرْقٌ، وحَشاهُ وهو ما احتوىٰ عليه البطن، وشَظاه وهو عَظْم في الوَرِك.

واستعمالُه هنا في حقِّ اللهِ تعالى مجازٌ عن التَّرْكِ، وقيل: مجازٌ عن الخشيةِ لأنها أيضاً مِنْ ثمراتِه، وجَعَلَه الزمخشريُّ من باب المقابلة، يعني أنَّ الكفار لَمَّا قالوا: " أمَا يستحيي ربُّ محمدٍ أن يَضْرِبَ المَثَل بالمُحَقِّراتِ " قوبل قولُهم ذلك بقوله: " إنَّ الله لا يستحيي أن يضربَ " ، ونظيرُه قول أبي تمام:
303ـ مَنْ مُبْلِغٌ أفناءَ يَعْرُبَ كلَّها   أني بَنَيْتُ الجارَ قبلَ المَنْزِلِ
لو لم يَذْكُرْ بناءَ الدارِ لم يَصِحَّ بناءُ الجارِ.

واستحيى يتعدَّى تارةً بنفسِه وتارةً بحرفِ جرٍّ، تقول: اسْتَحْيَتْهُ، وعليه: " إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ " البيت، واستَحْيَيْتُ منه، وعليه: " ألا تَسْتَحِي منا الملوكُ " البيت، فيَحْتَمِلُ أن يكونَ قد تعدَّى في هذه الآية إلى " أَنْ يضربَ " بنفسِه فيكونَ في محلِّ نصبٍ قولاً واحداً، ويَحْتَمِل أن يكونَ تَعَدَّى إليه بحرفِ الجرِّ المحذوفِ، وحينئذٍ يَجْري الخلافُ المتقدمُ في قولِه " أنَّ لهم جناتٍ ".

و " يَضْرِبَ " معناه: يُبَيِّنَ، فيتعدَّى لواحدٍ. وقيل: معناه التصييرُ، فيتعدَّى لاثنين نحو: " ضَرَبْتُ الطينَ لَبِناً " ، وقال بعضُهم: " لا يتعدَّى لاثنين إلا مع المَثَل خاصة " ، فعلى القول الأول يكونُ " مَثَلاً " مفعولاً و " ما " زائدةٌ، أو صفةٌ للنكرة قبلَها لتزدادَ النكرةُ شِياعاً، ونظيرُه قولُهم: " لأمرٍ ما جَدَع قَصيرٌ أنفَه " وقولُ امرئ القيس:

السابقالتالي
2 3 4 5 6