الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

قوله تعالى: { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }: " مَنْ " للاستفهام ومَحَلُّها الرفعُ على الابتداءِ، و " ذا " اسم إشارةٍ خبرُهُ، و " الذي " وصلتُهُ نعتٌ لاسمِ الإِشارةِ أو بدلٌ منه، ويجوزُ أن يكونَ " مَنْ ذا " كلُّه بمنزلَةِ اسمٍ واحدٍ تركَّبا كقولِكَ: " ماذا صَنَعْتَ " كما تقدَّم شرحُه في قوله:مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ } [البقرة: 26]. ومَنَع أبو البقاء هذا الوجه وفَرَّق بينه وبين قولِكَ: " ماذا " حيثُ يُجْعَلان اسماً واحداً بأنَّ " ما " أشدُّ إبهاماً مِنْ " مَنْ " لأنَّ " مَنْ " لمَنْ يَعْقِلُ. ولا معنى لهذا المنعِ بهذه العلةِ، والنحويون نَصُّوا على أنَّ حكمَ " مَنْ ذا " حكمُ " ماذا ".

ويجوز أن يكونَ " ذا " بمعنى الذي، وفيه حينئذٍ تأويلان، أحدُهما: أنَّ " الذي " الثاني تأكيدٌ له، لأنه بمعناه، كأنه قيل: مَنْ الذي الذي يُقْرِضُ؟ والثاني: أن يكونَ " الذي " خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، والجملةُ صلةُ ذا، تقديرهُ: " مَنْ الذي هو الذي يُقْرِضُ " وذا وصلتُه خبرُ " مَنِ " الاستفهامية. أجاز هذين الوجهين جمالُ الدين بن مالك، وهما ضعيفان، والوجهُ ما قَدَّمْتُهُ.

وانتصَبَ " قرْضاً " على المصدرِ على حذفِ الزوائدِ، إذ المعنى: إقراضاً كقوله:أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [البقرة: 26]، وعلى هذا فالمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ: " يُقْرِض اللَّهَ مالاً وصدقةً " ، ولا بدَّ من حذفِ مضافًٍ تقديرهُ: يقرضُ عبادَ اللَّهِ المحاويجَ، لتعاليه عن ذلك، أو يكونُ على سبيل التجوُّزِ، ويجوز أن يكونَ بمعنى المفعول نحو: الخَلْق بمعنى المخلوق، وانتصابُهُ حينئذٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ لـ " يُقْرِض ".

" وحَسَناً " يجوزُ أن يكونَ صفةً لقرضاً بالمعنيينِ المذكورين، ويجوز أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، إذ جعلنا " قَرْضاً " بمعنى مفعول أي: إقراضاً حسناً.

قوله: { فَيُضَاعِفَهُ } قرأ عاصم وابن عامر هنا، وفي الحديد بنصب الفاء، إلاَّ أنَّ ابنَ عامر يشدِّد العينَ من غير ألفٍ. والباقون برفعِها، إلاَّ أنَّ ابن كثير يشدِّد العينَ من غير ألفٍ، فالرفعُ من وجهين، أحدُهما: أنه عطفٌ على " يقرضُ " الصلةِ. والثاني: أنه رفعٌ على الاستئناف أي: فهو يُضاعِفُهُ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ.

والنصبُ من وجهين، أحدُهما: أنه منصوبٌ بإضمارٍ " أَنْ " عطفاً على المصدر المفهومِ من " يقرضُ " في المعنى، فيكونُ مصدراً معطوفاً على مصدرٍ تقديرُهُ: مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ من اللَّهِ، كقوله:
1014 ـ لَلُبْسُ عباءَةٍ وتَقرَّعيني   أحبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشفوفِ
والثاني: أنه نصبٌ على جوابِ الاستفهامِ في المعنى، لأنَّ الاستفهامِ وإنْ وَقَعَ عن المُقْرِضِ لفظاً فهو عن الإِقراضِ.

السابقالتالي
2 3