الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ آيَاتِ ٱللَّهِ هُزُواً وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ ٱلْكِتَابِ وَٱلْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

قولُه تعالى: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ }: شرطٌ جوابُهُ " فَأَمْسِكُوهُنَّ " ، وقوله: " فبَلَغْنَ " عطفٌ على فعلِ الشرط. والبلوغُ: الوصولُ إلى الشيء: بَلَغَهُ يبلُغه بُلوغاً، قال امرؤ القيس:
981 ـ ومَجْرٍ كَغُلاَّنِ الأُنَيْعِمِ بالِغٍ   ديارَ العدوِّ ذي زُهاءٍ وَأَرْكَانِ
ومنه: البُلْغَةُ والبَلاغُ اسمٌ لِما يُتَبَلَّغُ به.

قوله: { بِمَعْرُوفٍ } في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبُها: إمَّا الفاعلُ أي: مصاحبين للمعروف، أو المفعولُ أي: مصاحباتٍ للمعروف.

قوله: { ضِرَاراً } فيه وجهان، أظهرهُما أنه مفعولٌ من أجِلِهِ أي: لأجلِ الضِّرارِ. والثاني: أنه مصدرٌ في موضِعِ الحالِ أي: حالَ كونِكُم مُضَارِّينَ لهنَّ.

قوله: { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } أدغم أبو الحارث عن الكسائي اللامَ في الذالِ إذا كان الفعلُ مجزوماً كهذه الآية، وهي في سبعةِ مواضعَ في القرآن: { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } في موضعين،وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءِ } [آل عمران: 28]،وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً } [النساء: 30]،وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتَغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ } [النساء: 114]وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } [الفرقان: 68]،وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [المنافقون: 9]. وجاز لتقارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا واشتراكِهِما في الانفتاحِ والاستفال والجَهْر. وتَحَرَّز من غيرِ المجزومِ نحوُ: يفعلُ ذلك. وقد طَعَنَ قومٌ على هذه الروايةِ فقالوا: لا تَصِحُّ عن الكسائي لأنها تخالِفُ أصولَه، وهذا غيرُ صوابٍ.

قوله: { لِّتَعْتَدُواْ } هذه لامُ العلة، وأجاز أبو البقاء: " أن تكونَ لامَ العاقبةِ، أي: الصيرورة، وفي متعلَّقِها وجهان، أحدُهما: أنه " لا تُمْسِكُوهُنَّ ". والثاني: أنه المصدرُ إنْ قلنا إنه حال، وإنْ قُلْنَا إنه مفعولٌ من أجله تعلَّقَتْ به فقط، وتكون علةً للعلةِ، كما تقول: " ضربت ابني تأديباً لينتفعَ " ، فالتأديب علةٌ للضربِ والانتفاعُ علةٌ للتأديب، ولا يجوز أن تتعلَّقُ والحالةُ هذه بـ " لا تُمْسِكُوهن ". و " تَعْتَدُوا " منصوبٌ بإضمارِ " أنْ " وهي وما بعدَها في محلِّ جر بهذه اللام، كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرةٍ. وأصل " تَعْتَدُوا " تَعْتَدِيُوا، فأُعِلَّ كنظائرِهِ، ولا يخفَى ذلك مِمَّا تَقدم.

قوله: { عَلَيْكُمْ } يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بنفسِ " النعمة " إن أريدَ بها الإِنعامُ، لأنها اسمُ مصدر كنبات من أَنْبَتَ، ولا تمنع تاءُ التأنيث من عملِ هذا المصدرِ لأنه مبنيٌّ عليها كقوله:
982 ـ فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبةٌ   عقابَكَ قد كانوا لنا كالموارِدِ
فأعمل " رهبةٌ " في " عقابك " ، وإنما المحذُور أن يعملَ المصدرُ الذي لا يُبْنَى عليها نحو: ضربٌ وضَرْبَةٌ، ولذلك اعتذر الناس عن قوله:
983 ـ يُحايي به الجَلْدُ الذي هو حازِمٌ   بضربةِ كَفَّيْهِ المَلاَ وهْوَ راكِبُ
بأنَّ المَلا وهو السراب منصوبٌ بفعلٍ مقدر لا بضربة. والثاني: ان يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من " نعمة " إنْ أريد بها المُنْعَمُ به، فعلى الأول تكون الجلالةُ في محلِّ رفعٍ، لأنَّ المصدرَ رافعٌ لها تقديراً إذا هي فاعلةٌ به وعلى الثاني في محلِّ جر لفظاً وتقديراً.

السابقالتالي
2