الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

قوله تعالى: { مَاذَا يُنْفِقُونَ }: قد تقدَّم أنَّ " ماذا " له ستة استعمالات/ وتحقيقُ القولِ فيه عند قولِهمَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا } [البقرة: 26]. وهنا يجوزُ أَنْ تكونَ " ماذا " بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ بمعنى الاستفهام فتكونَ مفعولاً مقدَّماً، ويجوزُ أن تكونَ " ما " و " ذا " خبرَه، وهو موصولٌ. و " ينفقون " صلتُه والعائدُ محذوفٌ، و " ماذا " معلِّقٌ للسؤال فهو في موضعِ المفعولِ الثاني، وقد تقدَّم تحقيقُه في قوله:سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم } [البقرة: 211]، وجاء " ينفقون " بلفظ الغيبة؛ لأنَّ فاعلٌ الفعلِ قبلَه ضميرُ غَيْبَةٍ في " يسألونك " ، ويجوزُ في الكلامِ " ماذا ننفقُ " كما يجوزُ: أَقْسَمَ زيدٌ ليَضْرِبَنَّ ولأضْرِبَنَّ، وسيأتي لهذا مزيدٌ بيانٍ في قولِه تعالى:يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [المائدة: 4] في المائدةِ.

[قوله]: { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } يجوزُ في " ما " وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ لتوافق ما بعدها، فـ " ما " في محلِّ نصبٍ مفعولٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديمِ، لأنَّ له صدرَ الكلامِ. و " أنفقْتُمْ " في محلِّ جزمٍ بالشرطِ، و " مِنْ خيرٍ " تقدَّم إعرابُه في قوله:مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [البقرة: 106].

وقوله: { فَلِلْوَالِدَيْنِ } جوابُ الشرطِ، وهذا الجارُ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: فمَصْرِفُه للوالدَيْن، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ: إمَّا مفردٌ وإمَّا جملةٌ على حَسَبِ ما ذُكِر من الخلافِ فيما مَضَى. وتكونُ الجملةُ في محلِّ جزمٍ بجوابِ الشرطِ. والثاني: أن تكونَ " ما " موصولةً، و " أنفقتم " صلتُها، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، أي: الذي أنفقتموه. والفاءُ زائدةٌ في الخبرِ الذي هو الجارُّ والمجرورُ. قال أبو البقاء في هذا الوجهِ: " ومِنْ خيرٍ يكونُ حالاً من العائدِ المحذوفِ ".

وهم إنما سألوا عن المُنْفَقِ، فكيف أُجيبوا ببيانِ المَصْرِفِ للمُنْفِقِ عليه؟ فيه أجوبةٌ منها: أنَّ في الآيةِ حَذْفاً وهو المُنْفَقُ عليه فَحُذف، تقديره: ماذا ينفقون ولِمَنْ يُعْطونه، فجاء الجوابُ عنهما، فأجابَ عن المُنْفَقِ بقوله: " مِنْ خيرٍ " وعن المُنْفقِ عليه بقوله: " فللوالدَيْن " وما بعده. ومنها: أن يكون " ماذا " سؤالاً عن المَصْرِفِ على حَذْفِ مضافٍ، تقديرُه: مَصْرِفُ ماذا يُنْفقون؟ ومنها: أن يكونَ حَذَفَ من الأولِ ذِكْرَ المَصْرِفِ ومن الثاني ذِكْرَ المُنْفَقِ، وكلاهما مرادٌ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في قولِه تعالى:وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ } [البقرة: 171]. وقال الزمخشري: قد تضمَّن قولُه: { مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } بيانَ ما يُنفقونه. وهو كلُّ خيرٍ؛ وبُني الكلامُ على ما هو أَهَمُّ وهو بيانُ المَصْرِفِ، لأنَّ النفقة لا يُعْتَدُّ بها أَنْ تقعَ موقِعَها. [قال]:
925 ـ إنَّ الصنيعة لا تكونُ صنيعةً   حتى يُصابَ بها طريقُ المَصْنَعِ "
وأمَّا قولُه: { وَمَا تَفْعَلُواْ } فـ " ما " شرطيةٌ فقط لظهورِ عملها الجزمَ بخلافِ الأولى. وقرأ علي رضي الله عنه: " وما يفعلوا " بالياء على الغَيْبَة، فيُحْتمل أن يكونَ من بابِ الالتفات من الخطابِ، وأن يكونَ مِنْ الإِضمارِ لدلالةِ السياقِ عليه، أي: وما يفعلِ الناسُ.