الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }

قولُه تعالى: { ٱلسِّلْمِ }: قرأ هنا " السَّلْم " بالفتحِ نافعُ والكسائي وابن كثير، والباقون بالكَسْر، وأمَّا التي في الأنفال فلم يَقْرَأها بالكسر إلا أبو بكر وحدَه عن عاصم، والتي في القتال فلم يَقْرأْها بالكسر إلا حمزةُ وأبو بكر وحدَه عن عاصم، والتي في القتال فلم يَقْرَأْها بالكسر إلا حمزةُ وأبو بكر أيضاً، وسيأتي. فقيل: هما بمعنىً وهو الصلحُ، ويُذَكَّر ويُؤَنَّث، قال تعالى:وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا } ، وحَكَوْا: " بنو فلان سِلْمٌ وسَلْمٌ " ، وأصلُه من الاستسلام وهو الانقيادُ، ويُطْلَقُ على الإِسلامِ، قاله الكسائي وجماعة، وأنشدوا:
906 ـ دَعَوْتُ عشيرتي للسِّلْمِ لَمَّا   رأيُتُهمُ تَوَلَّوا مُدْبِرِينا
يُنْشَد بالكسر، وقال آخر في المفتوح:
907 ـ شرائِعُ السَّلْم قد بانَتْ معالِمُها   فما يَرى الكفرَ إلا مَنْ بِه خَبَلُ
فالسِّلْمُ والسَّلْمُ في هذين البيتين بمعنى الإِسلام، إلاَّ أنَّ الفَتْح فيما هو بمعنى الإِسلام قليلٌ. وقرىء " السَّلَم " بفتحِهِما، وقيل: بل هما مختلفا المعنى: فبالكسر الإِسلامُ وبالفتحِ الصلحُ.

قوله: { كَآفَّةً } منصوبٌ على الحالِ، وفي صاحبِها ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: وهو الأظهَرُ أنه الفاعلُ في " ادخُلوا " والمعنى: ادخُلُوا السِّلْم جميعاً. وهذه حالٌ تُؤَكِّدُ معنى العمومِ، فإنَّ قولَكَ: " قام القومُ كافةً " بمنزلةِ: قاموا كلُّهم. والثاني: أنه " السِّلْم " ، قاله الزمخشري وأبو البقاء، قال الزمخشري: " ويَجُوزُ أن تكونَ " كافةً " حالاً من " السِّلْمِ " لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّث الحَرْبُ، قال الشاعر:
908 ـ السِّلْمُ تأخذُ منها ما رَضِيتَ به   والحربُ يَكْفيكَ من أَنْفَاسِها جُرَعُ
على أنَّ المؤمنينَ أُمِرُوا أن يدخُلُوا في الطاعاتِ كلِّها، ولا يَدْخُلوا في طاعةٍ دونَ طاعةٍ، قال الشيخ: " تعليلُه كونُ " كافةً " حالاً من " السِّلم " بقولِه: " لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحرب " ليس بشيء/ لأنَّ التاءَ في " كافة " ليست للتأنيثِ، وإن كان أصلُها أَنْ تَدُلُّ عليه، بل صار هذا نقلاً مَحْضاً إلى معنى جميع وكل، كما صار قاطبةً وعامَّة إذا كانَ حالاً نَقْلاً مَحْضاً. فإذا قلت: " قامَ الناسُ كافً وقاطبةً " لم يَدُلَّ شيءٌ من ذلك على التأنيث، كما لا يَدُلُّ عليه " كُلّ " و " جميع ".

والثالثُ: أن يكونَ صاحبُ الحالِ هما جميعاً، أعني فاعلَ " ادخُلُوا " و " السِّلْم " فتكونُ حالاً من شيئين. وهذا ما أجازه ابنُ عطية فإنه قال: " وتَسْتَغْرِقُ " " كافة " حينئذٍ المؤمنين وجميعَ أجزاءِ الشرع، فتكونُ الحالُ مِنْ شيئين، وذلك جائِزٌ نحو قولِهِ:فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } [مريم: 37]. ثم قال بعد كلامٍ: " وكافةً معناه جميعاً، فالمرادُ بالكافة الجماعةُ التي تَكُفُّ مخالِفيها ".

السابقالتالي
2