الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ }

قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ }: هذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ الوجهين المتقدِّمَيْنِ في نظيرتِها، أعني كونَها مستأنفةً أو معطوفةً على " يُعْجِبُك " وقد تقدَّم أيضاً أولَ السورةِ عند قولِهِ: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ } ما الذي قام مقامَ الفاعلِ؟ وخلافُ الناسِ فيه.

قوله: " بالإِثمِ " في هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ تكونَ للتعديةِ وهو قولُ الزمخشري فإنه قال: " أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَملْتُهُ عليه وأَلْزَمْتُهُ إياه أي: حَمَلَتْهُ العِزَّةُ على الإِثْمِ وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه " قال الشيخ: " وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازم نحو:ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } [البقرة: 17]،[وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ] بِسَمْعِهِمْ } [البقرة: 20]، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو: " صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ " أي: جَعَلْتُ أحدَهما يَصُكُّ الآخرَ. الثاني: أن تكونَ للسببيةِ بمعنى أنَّ إثمَه كان سبباً لأخْذِ العِزَّةِ له كما في قوله:
901 ـ أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ   فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ
والثالث: أن تكونَ للمصاحبةِ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفيها حينئذٍ وجهانِ، أحدُهما: أن تكونَ حالاً من " العزَّةُ " أي: ملتبسةً بالإِثمِ. والثاني: أن تكونَ حالاً من المفعولِ أي: أَخَذَتْهُ ملتبساً بالإِثمِ.

وفي قوله " العزَّةُ بالإِثم " التَتْميم وهو نوعٌ من عِلْمِ البديعِ، وهو عبارةٌ عن إردافِ الكلمةِ بأُخْرَى تَرْفَعُ عنها اللَّبْسَ وتُقَرِّبُها من الفَهْم، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمومةً. فَمِنْ مجيئها محمودة:وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [المنافقون: 8]أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [المائدة: 54]، فلو أُطْلِقَتْ لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمودةَ فقيل: " بالإِثم " تتميماً للمرادِ فَرُفِعَ اللَّبْسُ بها.

قوله: { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } " حَسْبُهُ " مبتدأ و " جهنَّمُ " خبرُه أي: كافيهم جهنَّمُ، وقيل: " جهنَّمُ " فاعلٌ بـ " حَسْب " ، ثم اختلف القائلُ بذلك في " حَسْب " فقيل: هو بمعنى اسم الفاعل، أي الكافي، وهو في الأصل مصدرٌ/ أريد به اسمُ الفاعِل، والفاعِلُ - وهو جهنَّمُ - سَدَّ مَسَدَّ الخبر، وقَوِيَ " حَسْب " لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها، وهذا كلُّه معنى كلام أبي البقاء. وقيل: بل " حَسْب " اسمُ فعلٍ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ: فقيل: اسمُ [فعلٍ] ماضٍ، أي: كفاهم، وقيل فعلُ أمرٍ أي: لِيَكْفِهم، إلاَّ أن إعرابَه ودخولَ حروفِ الجر عليه يمنُع كونَه اسم فعلٍ. وقد تلخَّصَ مِمَّا تقدَّم أن " حَسْب " هل هو بمعنى اسم الفاعل وأصلُه مصدرٌ أو اسمُ فعلٍ ماضٍ أو فِعْلُ أمر؟ وهو من الأسماء اللازمةِ للإِضافةِ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافتِه إلى معرفةٍ، تقولُ، مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ، ويكونُ مبتدأ فيُجَرُّ بباء زائدة، وخبراً فلا يُجَرُّ بها، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤَنَّثُ وإنْ وقع صفةً لهذه الأشياء.

السابقالتالي
2