الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ }

قوله تعالى: { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ }: " سَعَى " جوابُ إذا الشرطية وهذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ وَجْهَيْنِ، أحدُهما: أن تكونَ عطفاً على ما قبلَها وهو " يُعْجِبُكَ " فتكون: إمَّا صلةً أو صفةً حسب ما تقدَّم في " مَنْ " ، والثاني أن تكونَ مستأنفةً لمجردِ الاخبارِ بحالِهِ، وقد تَمَّ الكلامُ عند قولِهِ: " ألدُّ الخصام ".

والتولِّي والسَّعْيُ يحتملان الحقيقةَ أي: تولَّى ببدنِهِ عنكَ وسعى بِقَدَمَيْهِ، والمجازَ بأن يريدَ بالتولِّي الرجوعَ عن القولِ الأولِ، وبالسعي العملَ والكَسْبَ من السَّعاية، وهو مجازٌ شائعٌ، ومنه:وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [النجم: 39] وقال امرؤُ القيس:
897 ـ فلو أنَّ ما أسْعى لأدنى معيشةٍ   كفاني ولم أَطْلُبْ قليلٌ من المالِ
ولكنَّمَا أسعى لمجدٍ مُؤثَّلٍ   وقد يُدْرِكُ المجدَ المؤثَّلَ أَمْثَالي
وقال آخر:
898 ـ أسعى على حَيِّ بني مالِكِ   كلُّ امرىءٍ في شَأْنِهِ ساعي
والسَّعايَةُ بالقولِ ما يقتضي التفريقَ بين الأخِلاَّءِ، قال:
899 ـ ما قلتُ ما قال وشاةٌ سَعَوْا   سَعْيَ عَدُوٍ بَيْنَنَا يَرْجُفُ
قوله: { فِي ٱلأَرْضِ } " متعلِّقٌ بـ " سَعَىَ " ، فإنْ قيل: معلومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكونُ إلاَّ في الأرضِ قيل: لأنه يُفيدُ العمومَ، كأنه قيل: أيَّ مكانٍ حَلَّ فيه من الأرضِ أفسدَ فيه، فَيَدُلُّ لفظُ الأرضِ على كثرة فسادِهِ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المظروفِ، و " ليفسِدَ " متعلقٌ بـ " سعى " علةً له.

قوله: { وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ } الجمهورُ على: " يُهْلِكَ " بضم الياء وكسر اللامِ ونصبِ الكافِ. " الحَرْثَ " مفعولٌ به، وهي قراءةٌ واضحةٌ من: أَهْلَكَ يُهْلك، والنصبُ عطفٌ على الفعِل قبلَهُ، وهذا شبيهٌ بقولِهِ تعالى:وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [البقرة: 98] فإنَّ قولَه: " ليفسدَ " يشتملُ على أنه يُهْلكُ الحرثَ والنسلَ، فخصَّهُما بالذكر لذلك. وقرأ أُبيّ: " وليُهْلِكَ " بإظهارِ لامِ العلة وهي معنى قراءةِ الجمهور، وقرأ أبو حيوة - ورُويت عن ابن كثير وأبي عمرو - " وَيَهْلِكَ الحرثُ والنَّسْلُ " بفتح الياء وكسرِ اللام من هَلَك الثلاثي، و " الحرث " فاعل، و " النسلُ " عطفٌ عليه. وقرأ قوم: " ويُهْلِكُ الحرثَ " من أَهْلَكَ، و " الحرث " مفعولٌ به إلا أنهم رفعوا الكافَ. وخُرِّجتْ على أربعةِ أوجهٍ: أن تكونَ عطفاً على " يُعْجِبُك " أو على " سَعَى " لأنه في معنى المستقبل، أو على خبر مبتدأٍ محذوفٍ أي: وهو يُهْلِكُ، أو على الاستئنافِ. وقرأ الحسن: " ويُهْلَكَ " مبنياً للمفعول، " الحَرْثُ " رفعاً، وقرأ أيضاً: " ويَهَلَكُ " بفتح الياء واللامِ ورفعِ الكافِ، " الحرثُ " رفعاً على الفاعلية، وفتحُ عينِ المضارعِ هنا شاذٌّ لفَتْحِ عينِ ماضِيهِ، وليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حلقٍ فهو مثلُ رَكَنَ يَ‍رْكَنُ بالفتحِ فيهما. و " ألحَرثُ " تقدَّم.

والنَّسْلُ: مصدرُ نَسَلَ ينسُل أي: خَرَجَ بسرعة، ومنه: نَسَلَ وَبَرُ البعيرِ، ونَسَلَ ريشُ الطائِر أي: خَرَجَ وتطايَرَ، وقيل: النسلُ الخروجُ متتابعاً، ومنه: " نُسالُ الطائر " ما تتابعَ سقوطُهُ من ريشِهِ، قال امرؤُ القيس:
900 ـ وإنهْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مني خليقَةٌ   فَسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ
وقوله:مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } [الأنبياء: 96] يحتمِلُ المعنيين. و " الحرثَ والنسلَ " وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقعَ المفعولِ به.