الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }

قوله تعالى: { مَّنَاسِكَكُمْ }: جمعُ " مَنْسَك " بفتحِ السين وكسرِها، وسيأتي تحقيقُهما، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً. والقُراء على إظهار هذا، وروى عن أبي عمرو الإِدغامُ، قالوا: شَبَّه الإِعرابِ بحركةِ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام، وأدغم أيضاً " مناسككم " ولم يُدْغِم ما يُشْبِهه من نحو:جِبَاهُهُمْ } [التوبة: 35] ووُجُوهُهُمْ } [آل عمران: 106] قوله: { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } الكافُ كالكاف في قولهكَمَا هَدَاكُمْ } [البقرة: 198] إلاَّ في كونِها بمعنى " على " أو بمعنى اللام، فَلْيُلتفت إليه. والجمهورُ على نصبِ " آباءكم " مفعولاً به، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل. وقرأ محمد بن كعب: " آباؤكم " رفعاً، على أنَّ المصدرَ مضافٌ للمفعولِ، والمعنى: كما يَلْهَجُ الابنُ بذكر أبيه. ورُوِيَ عنه أيضاً: " أباكم " بالإِفراد على إرادة الجنسِ، وهي توافِقُ قراءةَ الجماعة في كونِ المصدر مضافاً لفاعله، ويَبْعُد أن يقال: هو مرفوعٌ على لغةِ مَنْ يُجري " أباك " ونحوَهُ مُجرى المقصورِ.

قوله: { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } يجوزُ في " أشد " أن يكونَ مجروراً وأَنْ يكونَ منصوباً: فأمّا جَرُّه فذكروا فيه وجهين، أحدهما: أن يكونَ مجروراً عطفاً على " ذكِركم " المجرورِ بكافِ التشبيه، تقديرُه: أو كذكرٍ أشدَّ ذكراً، فتجعلُ للذكرِ ذِكْرَاً مجازاً، وإليه ذهب الزجاج، وتبعه أبو البقاء، وابن عطية.

والثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على المخفوض بإضافة المصدرِ إليه، وهو ضميرُ المخاطبين. قال الزمخشري: " أو أَشدَّ ذكراً في موضع جر عطفاً على ما أُضِيف إليه الذكر في قولِه: " كذكركم " كما تقول: كذكرِ قريشٍ آباءَهم أو قومٍ أشدَّ منهم ذِكْراً " وهذا الذي قاله الزمخشري معنى حسنٌ، ليس فيه تَجوُّزٌ بأَنْ يُجْعَل للذكْرِ ذِكْرٌ، لأنه جَعَلَ " أشد " من صفات الذاكرين، إلا أن فيه العطفَ على الضميرِ المجرور من غير إعادة الجار وهو ممنوعٌ عند البصريين ومَحَلُّ ضرورة.

وأمَّا نصبُه فمن أوجهٍ، أحدُه: أن يكونَ معطوفاً على " آباءكم " قال الزمخشري، فإنه قال: " بمعنى أو أشدَّ ذكراً من آبائِكم، على أن " ذِكْراً " من فِعْلِ المذكور " وهذا كلامٌ يَحْتاج إلى تفسيرٍ، فقولُه: " هو معطوفٌ على آباءكم " معناه أنك إذا عَطَفْتَ " أشدّ " على " آباءكم " كان التقديرُ: أو قوماً أشدَّ ذكراً من آبائكم، فكان القومُ مذكورين، والذكرُ الذي هو تمييزُ بعد " أشدَّ " هو من فِعْلهم، أي: من فعلِ القوم المذكورين، لأنه جاء بعد " أَفْعَلَ " الذي هو صفةٌ/ للقومِ، ومعنى " من آبائِكم " أي من ذكرِكم لآبائكم وهذا أيضاً ليس فيه تجوزٌّ بأنْ جُعِل الذكرُ ذاكراً.

الثاني: أن يكونَ معطوفاً على محلِّ الكاف في " كذكركم " لأنها عندهم نعتٌ لمصدر محذوف، تقديرُه: ذكراً كذكركم آباءكم أو أشدََّ، وجَعَلوا الذِّكْرَ ذاكراً مجازاً كقولهم: شعرٌ شاعِرٌ، وهذا تخريجُ أبي علي وابن جني.

السابقالتالي
2 3