الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

قوله تعالى: { مِنَ ٱلْكِتَابِ }: في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنه العائدُ على الموصولِ، تقديرُه: أنزله اللهُ حالَ كونِه من الكتابِ، فالعاملُ فيه " أَنْزَلَ " ، والثاني: أنه الموصولُ نفسه، فالعاملُ في الحالِ " يكتمون ".

قوله: { وَيَشْتَرُونَ بِهِ } الضميرُ في " به " يُحْتَمَلُ أن يعودَ على " ما " الموصولةِ، وأَنْ يعودَ على الكَتْمِ المفهومِ من قولِه: " يكتمون " وأَنْ يعودَ على الكتابِ، أظهرها أوَّلُها، ويكونُ ذلك على حَذْفِ مضافٍ، أي: يشترون بكَتْمِ ما أَنْزل.

قوله: { إِلاَّ ٱلنَّارَ } استثناءٌ مفرغٌ؛ لأن قبلَه عاملاً يَطلُبه، وهذا من مجاز الكلام، جَعَل ما هو سببٌ للنار كقولِهم: " أكل فلانٌ الدمَ " يريدون الدِّية التي بسببها الدمُ، قال:
820 ـ فلو أَنَّ حَيَّاً يقبلُ المالَ فِدْيةً   لَسُقْنا إليه المالَ كالسيلِ مُفْعَما
ولكنْ أبى قومٌ أُصيب أخوهمُ   رِضا العارِ واختاروا على اللبنِ الدِّما
وقال:
821 ـ أَكَلْتُ دماً إنْ لم أَرْعُكِ بِضَرَّةٍ   بعيدةِ مَهْوى القِرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
وقال:
822 ـ يَأْكُلْن كَلَّ ليلةٍ إكافا   ...........................
يريد: ثمن إكاف.

وقوله: { فِي بُطُونِهِمْ } يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أَنْ يتعلَّقَ بقولِه: " يأكلون " فهو ظرفٌ له. قال أبو البقاء: " وفيه حَذْفُ مضافٍ أي طريق بطونهم، ولا حاجةَ إلى ما قاله من التقدير. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النارِ. قال أبو البقاء: " والأجْوَدُ أن تكونَ الحالُ هنا مقدرةً لأنها وقتَ الأكلِ ليسَتْ في بطونِهم، وإنما تَؤُولُ إلى ذلك، والتقدير، ثابتةً أو كائنةً في بطونهم قال: " وَيَلْزَمُ من هذا تقديمُ الحالِ على حرف الاستثناءِ وهو ضعيفٌ، إلا أن يُجْعَلَ المفعولُ محذوفاً، و " في بطونِهم " حالاً من أو صفةً له، أي: في بطونهم شيئاً يعني فيكونُ " إلا النار " منصوباً على الاستثناءِ التام، لأنه مستثنى من ذلك المحذوفِ. إلا أنه قال بعد ذلك " وهذا الكلامُ في المعنى على المجازِ، وللإِعرابِ حكمُ اللفظ. والثالثُ: أن يكونَ صفةً أو حالاً من مفعول " كُلوا " محذوفاً كما تقدَّم تقريرُه.