الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ }

قوله تعالى { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ }: منصوبٌ بعد الفاء بِأَنْ مضمرةً في جواب التمني الذي أُشْرِبته " لو " ، ولذلك أُجيبت بجواب " ليت " الذي في قوله: يا ليتني كنتُ معهم فأفوز " ، وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمني فهل هي الامتناعيةُ المفتقرةُ إلى جوابٍ أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ؟ الصحيحُ أنها تحتاجُ إلى جوابٍ، وهو مقدَّرٌ في الآيةِ تقديرُه: لتبرَّأنا ونحوُ ذلك. وقيل: " لو " في هذه الآيةِ ونظائرها لِما كان سَيَقَعُ لوقوع غيره، وليس فيها معنى التمني، والفعلُ منصوبٌ بـ " أَنْ " مضمرةً على تأويلِ عَطْفِ اسم على اسم وهو " كَرَّة " والتقديرُ: لو أنَّ لنا كرةً فتبرُّؤاً فهو من باب قوله:
805 ـ لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني   ........................
ويكونُ جواب لو محذوفاً أيضاً كما تقدَّم. وقال أبو البقاء: " فنتبرأ " منصوبٌ بإضمار أنْ تقديرُه: لو أنّ لنا أن نرجِع فنتبرأ " فَحَلَّ " كرة " إلى قولِه " أَنْ نَرْجِعَ " لأنه بمعناه وهو قريبٌ، إلاَّ أنَّ النَّحْويين يُؤَوِّلون الفعلَ المنصوبَ بمصدرٍ ليَعْطِفُوهُ على الاسم قبلَه، ويتركون الاسمَ على حالِه، وذلك لأنه قد يكونُ اسماً صريحاً غير مصدرٍ نحو: " لولا زيدٌ ويخرج لأكرمتُك " فلا يتأتّى تأويله بحرف مصدري وفعلٍ. والقائل بأنّ " لو " التي للتمني لا جوابَ لها استدلَّ بقول الشاعر:
806 ـ فلو نَبْشُ المقابرِ عن كُلَيْبٍ   فَتُخْبَر بالذَّنائِبِ أيُّ زُورِ
وهذا لا يَصِحُّ فإنَّ جوابَها في البيتِ بعدَه وهو قولُه:
807 ـ بيومِ الشَّعْثَمَيْنِ لقَرَّ عيناً   وكيف لقاءُ مَنْ تحتَ القبورِ
واستدلَّ هذا القائلُ أيضاً بأنَّ " أنَّ " تُفْتَحُ بعد " لو " كما تُفْتَحُ بعدَ ليت في قولِه:
808 ـ يا ليتَ أنَّا ضَمَّنا سَفينَهْ   حتَّى يعودَ البحرُ كَيَّنُونَهْ
وههنا فائدةٌ ينبغي أن يُنتبه لها وهي: أنَّ النحاة قالوا: " كلُّ موضعٍ نُصِبَ فيه المضارعُ بإضمارِ أَنْ بعد الفاء إذا سَقَطَت الفاءُ جُزِم إلا في النفي " ، [و] ينبغي أَنْ يُزادَ هذا الموضعُ أيضاً فيُقال: وإلا في جوابِ التمني بـ " لو " ، فإنَّه يُنْصبُ المضارع فيه بإضمار " أَنْ " بعدَ الفاء الواقعةِ جواباً له، ومع ذلك لو سَقَطَت هذه الفاءُ لم يُجْزَمْ. قال الشيخ: " والسببُ في ذلك أنها محمولةٌ على حرف التمني وهو ليت، والجزمُ في جوابِ ليت إنما هو لتضَمُّنِها معنى الشرط أو لدلالتِها على كونِه محذوفاً على اختلافِ القولين فصارت " لو " فرع الفرع، فَضَعُفَ ذلك فيها.

قوله: " كما " الكافُ موضعُها نصبٌ: إمَّا على كونِها نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، أي: تبرُّؤاً مثلَ تبرئتهم، وإمَّا على الحالِ من ضمير المصدر المُعرَّفِ المحذوفِ أي: نتبَّرؤه - أي التبرؤ - مشابهاً لتبرئتهم، كما تقدَّم تقريره غيرَ مرةٍ.

السابقالتالي
2