الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ }

قوله تعالى: { إِذْ تَبَرَّأَ }: في " إذْ " ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أنَّها بدلٌ من " إذ يَرَوْن ". الثاني: أنها منصوبةٌ بقولِه " شديدُ العذاب " الثالث: - وهو أضعفها - أنها معمولةٌ لا ذكر مقدراً. و " تَبَرَّأ " في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليه. والتبرُّؤُ: الخلوصُ والانفصال، ومنه: بَرِئْتُ من الدَّيْن، وقد تَقدَّم تحقيقُ ذلك عند قولِه:إِلَىٰ بَارِئِكُمْ } [البقرة: 54]. والجمهورُ على تقديم " اتُّبِعوا " مبنياً للمفعول على " اتَّبعوا " مبنياً للفاعل. وقرأ مجاهد بالعكس، وهما واضحتان، إلاَّ أنَّ قراءة الجمهورِ واردةٌ في القرآنِ أكثرَ.

قوله: { وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } في هذه الجملة وجهانِ: أظهرهُما: أنها عطفٌ على ما قبلها، فتكونُ داخلةً في حَيِّز الظرف، تقديرُه: " إذ تبرّأ الذين اتُّبِعوا، وإذْ رَأَوا ". والثاني: أن الواو للحالِ والجملةُ بعدها حاليةٌ، و " قد " معها مضمرةٌ، والعاملُ في هذه الحالِ: " تَبَرَّأ " أي: تبرَّؤوا في حالِ رؤيتهم العذابَ.

قوله: { وَتَقَطَّعَتْ } يجوزُ أن تكونَ الواوُ للعطفِ وأَنْ تكونَ للحالِ، وإذا كانت للعطفِ فهل عَطَفَتْ " تَقَطَّعَتْ " على " تَبَرَّأ " ، ويكون قوله: " ورأوا " حالاً، وهذا اختيار الزمخشري، أو عَطَفَتْ على " رأوا "؟ وإذا كانت للحال فهل هي حالٌ ثانية للذين، أو حالٌ للضميرِ في " رَأوا "؟ وتكونُ حالاً متداخلةً إذا جَعَلْنا " ورأوا " حالاً.

والباءُ في " بهم " فيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُهُما: أنَّها للحالِ أي: تَقَطَّعَتْ موصولةً بهم الأسبابُ نحو: " خَرَج بثيابه ". الثاني: أن تكونَ للتعديةِ، أي: قَطَّعَتْهُم الأسبابُ كما تقولُ: تَفَرَّقَتْ بهم الطرقُ " أي: فَرَّقَتْهم. الثالث: أن تكون للسببية، أي: تَقَطَّعتْ بسببِ كفرِهم الأسبابُ التي كانوا يَرْجُون بها النجاة. الرابع: أن تكونَ بمعنى " عن " ، أي: تَقَطَّعت عنهم.

والأسبابُ: الوَصْلاتُ بينهم، وهي مجازٌ، فإن السبب في الأصل الحَبْلُ ثم أُطلقَ على كلِّ ما يُتَوصَّل به إلى شيء: عيناً كان أو معنىً، وقد تُطْلَقُ الأسبابُ على الحوادِثِ، قال زهير:
804 ـ ومَنْ هابَ أسبابُ المنايا يَنَلْنَه   ولو نالَ أسبابَ السماءِ بسُلَّمِ
وقد وُجِد هنا نوعٌ من أنواعِ: البديع هو الترصيعُ/ ، وهو عبارةُ عن تَسْجِيع الكلامِ، وهو هنا في موضعَيْن، أحدُهما { ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ } ولذلك حَذَفَ عائدَ الموصولِ الأولِ فلم يَقُلْ: من الذين اتَّبعوهم لفوات ذلك والثاني: { وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَاب } وهو كثيرٌ في القرآنِإِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } [البقرة: 73].