الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } * { إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ }

قوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ }: فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً، والمستثنى منه هو الضميرُ في " يلعنهم ". والثاني: أن يكونَ استثناءً منقطعاً لأنَّ الذين كَتَمُوا لُعِنوا قبل أن يتوبوا، وإنما جاء الاستثناءُ لبيان قَبولِ التوبة، لأنَّ قوماً من الكاتمين لم يُلْعَنوا، ذكر ذلك أبو البقاء وليس بشيء.

قوله: { وَمَاتُوا } هذه واوُ الحال، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، وإثباتُ الواو هنا أفصحُ خلافاً للفراء والزمخشري حيث قالا: إنَّ حذفَها شاذ.

وقوله: { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ } " أولئك " مبتدأ، و " عليهم لعنةُ اللهِ " مبتدأً وخبرٌ، خبرٌ عن أولئك، وأولئك وخبرُه خبرٌ عن " إنَّ ". ويجوزُ في " لَعنةُ " ، الرفعُ بالفاعليةِ بالجارِّ قبلها لاعتمادِها فإنه وقع خبراً عن " أولئك " وتقدَّم تحريرُه فيعَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ } [البقرة: 157] قوله: { وَٱلْمَلاۤئِكَةِ } الجمهورُ على جَرِّ الملائكة نَسفَاً على اسمِ الله. وقرأ الحسن بالرفع: { وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } ، وخَرَّجَها النحويون على العطفِ على موضعِ اسمِ الله تعالى، فإنَّه وإنْ كان مجروراً بإضافةِ المصدرِ إليه فموضعُه رفعٌ بالفاعليةِ لأنَّ هذه المصدرَ ينحلُّ لحرفٍ مصدريٍ وفِعْلٍ، والتقدير: أَنْ لَعَنَهم، أو أَنْ يَلْعَنَهم اللهُ، فَعَطَفَ " الملائكةُ " على هذا التقدير، قال الشيخ: " وهذا ليس بجائزٍ على ما تقرَّر من العطفِ على الموضعِ، فإنَّ مِنْ شرطِه أن يكونَ ثَمَّ مُحْرِزٌ للموضع وطالبٌ له، والطالبُ للرفعِ وجودُ التنوينِ في المصدرِ، هذا إذا سَلَّمْنا أن " لعنة " تَنْحَلُّ لحرفٍ مصدري وفِعْلٍ، لأنَّ الانحلالِ لذلك شرطُه أَنْ يُقْصَدَ به العلاج، ألا ترى أنَّ قولَه:أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } [هود: 18] ليس المعنى على تقديرِ: أَنْ يَلْعَنَ اللهُ على الظالمين، بل المرادُ اللعنةُ المستقرةُ، وأضيفت لله تعالى على سبيلِ التخصيص لا على سبيل الحدوث " ونقلَ عن سيبويه أن قولَك: " هذا ضاربُ زيدٍ غداً وعمراً " بنصب " عمراً " أنَّ نصبَه بفعلٍ محذوفٍ، وأبى أَنْ ينصِبَه بالعطفِ على الموضعِ، ثم بعد تسليمِه ذلك كلَّه قال: " المصدرُ المنوَّنُ لم يُسْمَعْ بعدَه فاعلٌ مرفوعٌ ومفعولٌ منصوبٌ، إنما قاله البصريون قياساً على أَنْ والفعل ومَنَعَه الفراء وهو الصحيح ".

ثم إنَّه خَرَّجَ هذه القراءةَ الشاذة على أحدِ ثلاثةِ أوجه، الأولُ: أَنْ تكونَ " الملائكةُ " مرفوعةً بفعلٍ محذوفٍ أي: وتَلْعَنُهم الملائكة، كما نَصَبَ سيبويه " عمراً " في قولك: " ضاربُ زيدٍ وعمراً " بفعلٍ محذوفٍ. الثاني: أن تكونَ الملائكةُ عطفاً على " لعنة " بتقديرِ حَذْفِ مضافٍ: ولَعْنَةُ الملائكةِ، فَلمَّا حُذِفَ المضافُ أٌقيم المضافُ إليه مُقامه. الثالث: أن يكونَ مبتدأً قد حُذِفَ خبرُه تقديره: والملائكةُ والناسُ أجمعون تَلْعَنُهم ". وهذه أوجهٌ متكلفة، وإعمالُ المصدرِ المنونِ ثابتٌ، غايةُ ما في الباب أنه قد يُحْذَفُ فاعله كقوله:أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [البلد: 14] وأيضاً فقد أَتْبَعَتِ العربُ المجرورَ بالمصدرِ على مَوْضِعَيْه رفعاً على الشاعر:
784 -.....................   مَشْيَ الهَلوكِ عليها الخَيْعَلُ الفَضُلَ
برفع " الفُضُلُ " وهي صفةٌ للهَلوك على الموضعِ؛ وإذا ثَبَتَ ذلك، في النعتِ ثَبَتَ في العطفِ لأنهما تابعان من التوابعِ الخمسةِ. و " أجمعين " من ألفاظِ التأكيدِ المعنوي بمنزلة " كل ".