الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }

قوله تعالى: { كَمَآ أَرْسَلْنَا }: في الكافِ قولان، أظهرُهما: أنَّها للتشبيه. والثاني: أنها للتعليل، فعلى القولِ الأولِ تكونُ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ. واختَلَفَ الناسُ في متعلَّقِها حينئذٍ على خمسةِ أوجهٍ، أحدُها: أنها متعلقةٌ بقوله: " ولأتِمَّ " تقديرُه: ولأتَّم نعمتي عليكم إتماماً مثلَ إتمامِ الرسولِ فيكم، ومتعلَّقُ الإِتمامَيْنِ مختلفٌ، فالأولُ بالثوابِ في الآخرةِ والثاني بإرسالِ الرسولِ في الدنيا، أو الأولُ بإيجابِ الدعوةِ الأولى لإِبراهيم في قوله:وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [البقرة: 138] والثاني بإجابةِ الدعوةِ الثانية في قوله:رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [البقرة: 12]، [ورجَّحه مكي لأنَّ سياقَ اللفظِ يَدُلُّ على أنَّ المعنى]: ولأتمَّ نعمتي ببيان مِلَّةِ أبيكم إبراهيمَ كما أَجَبْنا دعوتَه فيكم فَأَرْسلنا إليكم رسولاً منكم. الثاني أَنها متعلقةٌ بيهتدون، تقديرُه: يَهْتدون اهتداءً مثلَ إرسالِنا فيكم رسولاً، ويكون تشبيهُ الهدايةِ بالإِرسال في التحقيق والثبوتِ، أي: اهتداءً متحققاً كتحققِ إرسالنا. الثالث: - وهو قول أبي مسلم - أنها متعلقةٌ بقولِه:وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [البقرة: 143]، أي: جَعْلاً مثلَ إرسالِنا. وهذا بعيدٌ جداً لطولِ الفصلِ المؤذنِ بالانقطاعِ. الرابع: أنها متعلقةٌ بما بعدها وهو " اذكروني " ، قال الزمخشري: " كما ذَكَرْتُكُم بإرسالِ الرسلِ فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، فيكونُ على تقديرِ مصدرٍ محذوفٍ، وعلى تقديرِ مضافٍ أي: اذكروني ذكراً مثل ذِكْرِنا لكم بالإِرسال، ثم صار: مثلَ ذكرِ إرسالِنا، ثم حُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، وهذا كما تقول: كما أتاك فلان فإنه يكرمك، والفاءُ غيرُ مانعةٍ من ذلك " قال أبو البقاء: " كما لم تَمْنَعْ في باب الشرط " يعني أنَّ ما بعدَ فاءِ الجزاءِ يَعْمَلُ فيما قبلها. [وقد رَدَّ مكي هذا بأنَّ الأمرَ إذا كان له جوابٌ لم يتعلَّق بهِ ما قبله] لاشتغالِه بجوابِه و " اذكروني " قد أُجيب بقولِه: " أذكرْكم " فلا يتعلَّقُ به ما قبلَه، قال " ولا يجوزُ ذلك إلا على التشبيه بالشرطِ الذي يُجاب بجوابين نحو: إذا أتاك فلانٌ فأكرمه تَرْضَهْ، فيكونُ " كما " و " فأذكركم " جوابين للأمرِ، والأول أفصحُ وأشهرُ، وتقول: " كما أحسنت إليك فأكرمني " فيَصِحُّ أن تجعلَ الكافَ متعلقةً بأكرمني إذ لا جواب له ".

وهذا الذي منعه مكي قال الشيخ: " لا نعلم خلافاً في جوازِه " وأمَّا قولُه: " إلا أن يُشَبَّه بالشرطِ " وجعلُه " كما " جواباً للأمر فليس بتشبِيهٍ صحيحٍ ولا يُتَعَقَّلُ، وللاحتجاجِ عليه موضعٌ غيرُ هذا الكتاب. قال الشيخ: وإنما يَخْدِشُ هذا عندي وجودُ الفاء فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتَبْعُدُ زيادتُها ". انتهى وقد تقدَّم ما نقلته عن أبي البقاء في أنها غيرُ مانعةٍ من ذلك.

السابقالتالي
2