الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }

قوله تعالى: { قَدْ نَرَىٰ }: " قد " هذه قالَ فيها بعضُهم: إنها تَصْرِفُ المضارعَ إلى معنى المضيِّ، وجَعَلَ، مِنْ ذلك هذه الآيةَ وأمثالَها وقولَ الشاعر:
760 ـ لِقَوْمٍ لعَمْري قد نَرَى أمسِ فيهمُ   مرابطَ للأمْهارِ والعَكَرِ الدَّهِرْ
وقال الزمخشري: " قد نرى ": ربما نرى، ومعناه كثرةُ الرؤيةِ كقول الشاعر:
761 ـ قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصَفْراً أناملُه   كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفُرْصادِ
قال الشيخ: " وشرحه هذا على التحقيق متضادٌّ، لأنه شَرَحَ " قد نرى " بربما نرى، ورُبَّ على مذهب المحققين إنما تكون لتقليلِ الشيء في نفسِه أو لتقليلِ نظيرِه: ثم قال: " ومعناه كثرةُ الرؤيةِ فهو مضادٌّ لمدلولِ رُبَّ على مذهب الجمهور. ثم هذا الذي ادَّعاه من كثرةِ الرؤيةِ لا يَدُلُّ عليه اللفظُ لأنه لم تُوضَعْ للكثرةِ " قد " مع المضارع سواءً أريد به المضيُّ أم لا، وإنما فُهِمَت الكثرةُ من متعلَّقِ الرؤيةِ وهو التقلُّبُ ".

قوله: { فِي ٱلسَّمَآءِ }: في متعلَّق الجارِّ ثلاثةُ أقوال، أحدُها: أنه المصدرُ وهو " تقلُّب " ، وفي " في " حينئذ وجهان، أحدُهما: أنَّها على بابِها الظرفية وهو الواضحُ. والثاني: أنَّها بمعنى " إلى " أي: إلى السماء، ولا حاجةَ لذلك ، فإنَّ هذا المصدرَ قد ثَبَتَ تعدّيه بـ " في " ، قال تعالى:[لاَ يَغُرَّنَّكَ] تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } [آل عمران: 196]. والثاني من القولين: أنه " نرى " وحينئذ تكونُ " في " بمعنى " مِنْ " أي: قد نَرى مِن السماء، وذكر السماء وإن كان تعالى لا يتحيَّزُ في جهة على سبيل التشريفِ. والثالث: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " وجهِك " ذكرَه أبو البقاء فيتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ، والمصدرُ هنا مضافٌ إلى فاعِلِه، ولا يجوزُ أن يكونَ مضافاً إلى منصوبهِ لأنَّ مصدرَ ذلك التقليب، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ من قولِه " وجهك " وهو بصرُ وجهِك لأنَّ ذلك لا يكادُ يُسْتَعملُ، بل ذكر الوجهَ لأنه أشرَفُ الأعضاءِ وهو الذي يُقَلْبه السائلُ في حاجته وقيل: كَنَى بالوجهِ عن البصر لأنه مَحَلُّه.

قوله: { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً } الفاءُ هنا للتسبب وهو واضحُ، وهذا جوابُ قسمٍ محذوفٍ، أي: فوالله لَنُوَلينَّكَ، و " نُوَلِّي " يتعدَّى لاثنين: الأول الكاف والثاني " قبلةً " ، و " ترضاها " الجملة في محل نصبٍ صفةً لقبلةً، قال الشيخ: " وهذا - يعني " فلنولينك " - يَدُلُّ على أَنَّ في الجملةِ السابقةِ حالاً محذوفةً تقديرُه: قد نرى تقلُّبَ وجهِك في السماءِ طالباً قبلةً غيرَ التي أنت مستقبلَها.

قوله: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ }: " وَلَّى " يتعدَّى لاثنين أحدُهما " وجهك " والثاني " شطرَ " ويجوز أن ينتصبَ " شطر " على الظرفِ المكاني فيتعدَّى الفعلُ لواحدٍ وهو قولُ النحاس، ولَمْ يذكرِ الزمخشري غيرَه، والأولُ أوضحُ، وقد يتعدَّى إلى ثانيهما بإلى.

السابقالتالي
2 3