الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }

قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: آمِنُواْ }: الكلامُ عليها كالكلامِ على نظيرتِها قبلها. وآمِنُوا فعل وفاعل والجملةُ في محلِّ رفع لقيامها مقامَ الفاعلِ على ما تقدَّم فيوَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ } [البقرة: 11]، والأقوالُ المتقدمة هناك تعودُ هنا فلا حاجة لذِكْرِها.

والكافُ في قوله: { كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } في محلِّ نصبٍ. وأكثرُ المُعْرِبينَ يجعلون ذلك نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، والتقدير: آمنوا إيماناً كإيمانِ الناس، وكذلك يقولون في: " سِرْ عليه حثيثاً " ، أي سيراً حثيثاً، وهذا ليس من مذهب سيبويه، إنما مذهبُه في هذا ونحوِه أن يكونَ منصوباً على الحالِ من المصدرِ المضمرِ المفهومِ من الفعلِ المتقدمِ.

وإنما أَحْوَجَ سيبويهِ إلى ذلك أنَّ حَذْفَ الموصوفِ وإقامةَ الصفةِ مُقامَه لا يجوز إلا في مواضعَ محصورةٍ، ليس هذا منها، وتلك المواضعُ أن تكونَ الصفةُ خاصةً بالموصوفِ، نحو: مررت بكاتبٍ، أو واقعةً خبراً نحو: زيد قائم، أو حالاً نحو: جاء زيدٌ راكباً، أو صفةً لظرف نحو: جلستُ قريباً منك، أو مستعمَلةً استعمالَ الأسماء، وهذا يُحْفَظُ ولا يقاس عليه، نحو: الأَبطح والأَبْرق، وما عدا هذه المواضعَ لا يجوزُ فيها حذفُ الموصوف، ألا ترى أن سيبويه منع: " ألا ماءَ ولو باردا " ، وإنْ تقدَّم ما يدل على الموصوف، وأجاز: ألا ماءَ ولو بارداً لأنه نَصْبٌ على الحال.

و " ما " مصدريةٌ في محلِّ جر بالكاف، و " آمَنَ الناسُ " صلتُها. واعلم أن " ما " المصدريةَ تُوصَلُ بالماضي أو المضارعِ المتصرِّف، وقد شَذَّ وصلُها بغيرِ المتصرِّف في قوله:
191ـ.....................   بما لَسْتُما أهلَ الخيانةِ والغَدْرِ
وهل تُوصل بالجمل الاسمية؟ خلافٌ، واستُدِلَّ على جوازه، بقوله:
192ـ واصِلْ خليلَك ما التواصلُ مُمْكِنٌ   فلأَنْتَ أو هُو عن قليلٍ ذاهبُ
وقول الآخر:
193- أحلامُكم لِسَقامِ الجَهْل شافيةٌ   كما دماؤُكُمُ تَشْفي من الكَلَب
وقول الآخر:
194- فإنَّ الحُمْرَ من شرِّ المَطايا   كما الحَبِطاتُ شَرُّ بني تميمِ
إلا أنَّ ذلك يكثُر فيها إذا أَفْهَمَتِ الزمانِ كقوله: " واصلْ خليلَك. البيت. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكونَ " ما " كافةً للكاف عن العمل، مثلُها في قولك: ربما قام زيد. ولا ضرورةَ تَدْعو إلى هذا، لأنَّ جَعْلَها مصدريةً مُبْقٍ للكافِ على ما عُهِدَ لها من العملِ بخلافِ جَعْلِها كافةً. والألفُ واللامُ في " الناس " تحتملُ أن تكونَ جنسيةً أو عهديةً. والهمزةُ في " أنؤمن " للإِنكار أو الاستهزاءِ، ومحلُّ " أنؤمن " النصبُ بـ " قالوا ".

وقوله: { كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ }: القولُ في الكافِ و " ما " كالقول فيهما فيما تقدَّم، والألفُ في السفهاء تحتمل أن تكونَ للجنسِ أو للعهدِ، وأَبْعَدَ مَنْ جَعَلها للغلَبةِ كالعَيُّوق، لأنه لم يَغْلِبْ هذا الوصفُ عليهم، بحيث إذا قيل السفهاءُ فُهِمَ منهم ناسٌ مخصوصون، كما يُفْهم من العيُّوق/ كوكب مخصوص.

السابقالتالي
2