الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }

قوله تعالى: { ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً }: الجَعْلُ هنا بمعنى التصيير فيتعدَّى لاثنين فـ " هذا " مفعولٌ أولُ و " بلداً " مفعولٌ ثانٍ، والمعنى: اجْعَلْ هذا البلدَ أو هذا المكانَ. و " آمناً " صفةٌ أي ذا أَمْن نحو: " عيشةٌ راضيةٌ " أو آمِناً مَنْ فِيه نحو: ليلةٌ نائمٌ./ والبلدُ معروفٌ وفي تسميته قولان، أحدُهما: أنه مأخوذُ من البَلْدِ. والبَلْدُ في الأصل: الصَّدْر يقال: وضَعَتِ الناقةُ بَلْدَتها إذا بَرَكَتْ أي: صدرَها، والبَلَدُ صدرُ القُرى فسُمِّي بذلك. والثاني: أنَّ البلدَ في الأصل الأثَرُ ومنه: رجلٌ بَليد لتأثير الجهل فيه، وقيل لِبَرْكَةِ البعيرِ " بَلْدَة " لتأثيرِها في الأرض إذا بَرَك قال:
719 - أُنِيخَتْ فأَلْقَتْ بَلْدَةً فوق بلْدةٍ   قليلٌ بها الأصواتُ إلاَّ بُغامُها
قوله: { مَنْ آمَنَ } بدلُ بعضٍ من كل وهو " أهلَه " ولذلك عادَ فيه ضميرٌ على المُبْدَلِ منه، و " مِنْ " في " مِن الثمرات " للتبعيضِ. وقيل: للبيانِ، وليس بشيءٍ إذ لم يتقدَّمُ مُبْهَمٌ يبيَّنُ بها.

قولُه: { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ } يجوزُ في " مَنْ " ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكونَ موصولةً، وفي محلِّها حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أنَّها في محلِّ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه، قال اللهُ وأرزقُ مَنْ كَفَرَ، ويكونُ " فأمتِّعُه " معطوفاً على هذا الفعلِ المقدَّرِ. والثاني من الوجهين: أن يكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداء و " فأمتِّعُه " الخبرَ، دَخَلَت الفاءُ في الخبرِ تشبيهاً له بالشرطِ، وسيأتي أنَّ أبا البقاء يمنعُ هذا والردُّ عليه. الثاني من الثلاثةِ الأوجهِ: أن تكونَ نكرةً موصوفةً ذكرَه أبو البقاء، والحكمُ فيها ما تقدَّم من كونِها في محلِّ نصبٍ أو رفع. الثالث: أن تكونَ شرطيةً ومحلُّها الرفعُ على الابتداءِ فقط، و " فأمتِّعُه " جوابُ الشرط.

ولا يجوزُ في " مَنْ " في جميع وجوهِها أَنْ تكونَ منصوبةً على الاشتغال، أمَّا إذا كانَتْ شرطاً فظاهرٌ لأنَّ الشرطيةَ إنما يفسِّر عاملَها فعلُ الشرطِ لا الجزاءُ، وفعلُ الشرطِ هنا غيرُ ناصبٍ لضميرِها بل رافعُه، وأمَّا إذا كانت موصولةً فلأنَّ الخبرَ الذي هو " فأمتِّعه " شبيهٌ بالجَزاء ولذلك دَخَلَتْه الفاءُ، فكما أن الجزاءَ لا يفسِّر عاملاً فما أشبهَه أَوْلى بذلك، وكذا إذا كانَتْ موصوفةً فإنَّ الصفةَ لا تُفَسِّرُ. وقال أبو البقاء: " لا يجوزُ أن تكونَ " مَنْ " مبتدأ و " فأمتِّعُه " الخبرَ، لأنَّ " الذي " لا تدخُل الفاءُ في خبرها إلا إذا كان الخبرُ مُسْتَحِقَّاً بالصلةِ نحو: الذي يأتيني فله درهمٌ، والكفرُ لا يَسْتَحِقُّ به التمتُّعُ، فإنْ جَعَلْتَ الفاءَ زائدةً على قولِ الأخفش جازَ، أو [جعلت] الخبرَ محذوفاً و " فأمتِّعُه " دليلاً عليه جاز، تقديرُه: ومَنْ كَفَرَ أرزُقُه فَأمتِّعه.

السابقالتالي
2 3