الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ }

قوله تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ }: " إذ " عَطْفٌ على " إذْ " قبلَها، وقد تقدَّم الكلامُ فيها، و " جَعَلْنا " يحتمل أن يكونَ بمعنى " خَلَقَ " و " وَضَعَ " فيتعدَّى لواحدٍ وهو " البَيْت " ، ويكون " مَثَابةً " نصباً على الحالِ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين، فيكون " مثابةً " هو المفعولُ الثاني.

والأصلُ في " مَثَابة " مَثْوَبة، فَأُعِلَّ بالنقلِ والقلبِ، وهل هو مصدرٌ أو اسمُ مكانٍ قولان؟ وهل الهاءُ فيه للمبالغةِ كعَلاَّمة ونسَّابة لكثرةِ مَنْ يَثُوب إليه أي يرجع أو لتأنيث المصدرِ كمقامة أو لتأنيثِ البقعة؟ ثلاثةُ أقوال، وقد جاء حَذْفُ هذه الهاءِ قال ورقة بن نوقل:
712 ـ مَثَابٌ لأَفْناءِ القبائلِ كلِّها   تَخُبُّ إليها اليَعْمَلاتُ الذَّوامِلُ
وقال:
713 ـ جَعَلَ البيتَ مثاباً لهُمُ   ليس منه الدهرَ يَقْضُون الوطَرْ
وهل معناه من ثابَ يَثُوب أي: رَجَع، أو من الثوابِ الذي هو الجزاء؟ قولان أظهرُهما أوَّلُهما. وقرأ الأعمش وطلحة: " مَثَابَاتٍ " جَمْعاً، ووجهُه أنه مثابةٌ لكلِّ واحدٍ من الناس.

قوله: { لِّلنَّاسِ } فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لمثابة ومَحَلُّه النصبُ. والثاني: أنه متعلِّقٌ بجَعَلَ أي: لأجلِ الناسِ يعني مناسكَهم.

قوله: { وَأَمْناً } فيه وجهان، أحدُهما: أنه عَطْفٌ على " مَثَابة " وفيه التأويلاتُ المشهورةُ: إمَّا المبالغةُ في جَعْلِه نفس المصدر، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا أَمْن، وإمَّا على وقوعِ المصدرِ موقعَ اسمِ الفاعل أي: آمِنَاً، على سبيل المجاز كقوله: " حَرَماً آمِناً ". والثاني: أنه معمولٌ لفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: وإذ جَعَلْنَا البيتَ مثابةً فاجْعَلوه آمِناً لا يعتدي فيه أحدٌ على أحد. والمعنى: أن الله جَعَلَ البيتَ محترماً بحكمه، وربما يُؤَيَّد هذا بقراءَةِ: " اتَّخِذُوا " على الأمرِ فعلى هذا يكونُ " وأَمْناً " وما عَمِل فيه من باب عطفِ الجملِ عُطِفَت جملةٌ أمريةٌ على خبريةٍ، وعلى الأول يكون من عطف المفردات.

قوله: { وَٱتَّخِذُواْ } قرأ نافعٌ وابنُ عامر: " واتَّخذوا " فعلاً ماضياً على لفظ الخبر، والباقون على لفظِ الأمرِ. فأمَّا قراءةُ الخبرِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنه معطوفٌ على " جَعَلْنا " المخفوض بـ " إذ " تقديراً فيكون الكلامُ جملةً واحدةً. الثاني: أنه معطوفٌ على مجموعِ قولِه: " وإذ جَعَلْنا " فيحتاجُ إلى تقديرِ " إذ " أي: وإذ اتخذوا، ويكون الكلامُ جملتين. الثالث: ذكره أبو البقاء أن يكونَ معطوفاً على محذوفٍ تقديرُه: فثابوا واتخذوا.

وأمَّا قراءةُ الأمرِ ففيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها عَطفٌ على " اذكروا " إذا قيل بأنَّ الخطابَ هنا لبني إسرائيل، أي: اذكروا نعمتي واتخذوا. والثاني: أنها عطفٌ على الأمر الذي تَضَمَّنه قولُه: " مثابةً " كأنه قال: ثُوبوا واتَّخِذوا، ذكرَ هذين الوجهين المهدوي.

السابقالتالي
2