الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

قوله تعالى: { إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً }: " مَنْ " فاعلٌ بقوله " يَدْخُلَ " وهو استثناءٌ مفرغٌ، فإنَّ ما قبل " إلاَّ " مفتقرٌ لِما بعدَها، والتقديرُ: لن يدخلَ الجنةَ أحدٌ، وعلى مذهبِ الفراء يجوزُ في " مَنْ " وجهان آخران، وهما النصبُ على الاستثناءِ والرفعُ على البدلِ من " أحد " المحذوفِ، فإن الفراء يراعي المحذوفَ، وهو لو صُرِّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران فكذلك مع تقدِيره عندَه، وقد تقدَّم تحقيقُ المذهبين.

والجملةُ من قولِه: { لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن } في محل نصبٍ بالقول، وحُمِلَ أولاً على لفظِ " مَنْ " فَأُفْرِدَ الضمير في قوله: " كان " ، وعلى معناها ثانياً فجُمِع في خَبَرِها وهو " هوداً " ، وفي مثلِ هذين الحَمْلين خلافٌ، أعني أن يكونَ الخبرُ غيرَ فعل، بل وصفاً يَفْصِلُ بين مذكرِه ومؤنثِه تاءُ التأنيثِ، فمذهَبُ جمهورِ البصريين والكوفيين جوازُه، ومذهبُ غيرِهم مَنْعُه، منهم أبو العباس، وهو مَحْجوجون بسماعِه من العربِ كهذه الآيةِ، فإنَّ هوداً جمعُ هائد على أظهر القولين، نحو: بازِل وبُزْل وعائِد وعُود وحائل وحُول وبائِر وبُور و " هائد " من الأوصافِ الفارقِ بين مذكرِها ومؤنثِها تاءُ التأنيثِ، وقال الشاعر:
678 ـ وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكم نِياما   ..........................
و " نيام " جمعُ نائمٍ وهو كالأول، وفي " هُود " ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه جمعُ هائِدٍ كما تقدَّم. والثاني: أنه مصدرٌ على فُعْل نحو حُزْن وشُرْب، يوصف به الواحدُ وغيرُه نحو: عَدْل وصَوْم. والثالث: - وهو قَوْلُ الفراء - أنَّ أصلَه " يَهود " فحُذِفَتِ الياء من أوله، وهذا بعيدٌ جداً.

و " أو " هنا للتفصيلِ والتنويعِ لأنه لمَّا لَفَّ الضميرَ في قوله: " وقالوا " فَصَّل القائلين، وذلك لِفَهْمِ المعنى وأَمْنِ الإلباس، والتقديرُ: وقالَ اليهودُ لًَنْ يدخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كانَ هُوداً، وقال النصارى: لَنْ يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان نصارى؛ لأنَّ مِن المعلومِ أنَّ اليهودَ لا تقول: لَنْ يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان نصرانياً وكذلك النَّصارى، ونظيرُه:قَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } [البقرة: 135] إذ معلومُ أنَّ اليهودَ لا تَقُول: كونوا نصارى، ولا النصارى تقول: كونوا هوداً، وصُدِّرَت الجملةُ بالنفي بـ " لن " لأنها تُخَلِّصُ للاستقبالِ ودخولُ الجنة مستقبلٌ. وقُدَّمَتِ اليهودُ على النصارى لفظاً لتقدُّمِهِم زماناً.

قوله: { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } " تلك " مبتدأ، و " أمانِيُّهم " خبرُه، ولا محلَّ لهذه الجملةِ لكونها اعتراضاً بين قولِه: " وقالوا " وبين: { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } فهي اعتراضٌ بين الدعوى ودليلها. والمشارُ إليه بـ " تلك " فيه ثلاثةُ احتمالات أحدُها: أنه المقالةُ المفهومةُ مِنْ: " َقَالُواْ لَن يَدْخُلَ " ، أي: تلك المقالةُ أمانيُّهم، فإنْ قيل: فكيف أَفْرَدَ المبتدأ وجَمَعَ الخبرَ؟ فالجوابُ أن تلك كنايةً عن المقالةِ، والمقالةُ في الأصلِ مصدرٌ، والمصدرُ يقع بلفظِ الإِفرادِ للمفردِ والمثنَّى والمجموعِ، فالمرادُ بـ " تلك " الجمعُ من حيث المعنى.

السابقالتالي
2 3