قوله تعالى: { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم }: الكلامُ في " لو " كالكلامِ فيها عندَ قوله:{ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ } [البقرة: 96]، فمَنْ جَعَلَهَا مصدريةً هناك جعَلها كذلك هنا، وقال: هي مفعولُ " يَوَدُّ " ، أي: وَدَّ كثيرٌ رَدَّكم. ومَنْ أبى جَعَلَ جوابَها محذوفاً تقديرُه: لو يَرُدُّونَكم كفاراً لَسُرُّوا - أو فرحوا - بذلك، وقال بعضُهم: تقديرُه: لو يَرُدُّونكم كفاراً لَوَدُّوا ذلك، فَوَدَّ دالَّةٌ على الجوابِ وليسَتْ بجوابٍ لأنَّ " لو " لا يتقدَّمُها جوابُها كالشرط. وهذا التقديرُ الذي قَدَّره هذا القائلُ فاسدٌ؛ وذلك أنَّ " لو " حرفٌ لما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه فَيَلْزَمُ مِنْ تقديرِه ذلك أن وَدَادَتَهُم ذلك لم تَقَعْ، لأن الموجَبَ لفظاً منفيٌّ معنىً، والغرضُ أن ودَادَتَهم ذلك واقعةٌ باتفاقٍ، فتقديرُ: لَسُرُّوا ونحوِه هو الصحيحُ. و " يَرُدُّ " هنا فيه قولان، أحدُهما - وهو الواضحُ - أنها المتعديةُ لمفعولين بمعنى صَيَّر، فضميرُ المخاطبين مفعولٌ أَوَّلُ، و " كفاراً " مفعولٌ ثانٍ، ومِنْ مجيء رَدَّ بمعنى صَيَّر قوله:
676 ـ رمى الحَدَثانُ نسوةَ آلِ حربٍ
بمِقْدارٍ سَمَدْنَ له سُمودا
فَرَدَّ شعورَهُنَّ السُّودَ بيضاً
وَرَدَّ وجوهَهُنَّ البِيضُ سُودا
وجَعَلَ أبو البقاء " كفاراً " حالاً من ضميرِ المفعولِ على أنَّها المتعديةُ لواحدٍ، وهو ضعيفٌ لأنَّ الحالَ يُسْتَغْنى عنها غالباً، وهذا لا بُدَّ منه. و " مِنْ بعدِ " متعلِّقٌ بيَرُدُّونكم، و " مِنْ " لابتداءِ الغاية. قوله: { حَسَداً } نصبٌ على المفعولِ له، وفيه الشروطُ المجوِّزة لنصبِه، والعاملُ فيه " وَدَّ " أي: الحاملُ على ودَادَتِهم رَدَّكم كفاراً حَسَدُهم لكم. وجَوَّزوا فيه وجهين آخرين، أحدُهما: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ، وإنما لم يُجْمَعْ لكونِه مصدراً، أي: حاسِدِين، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ مجيءَ المصدرِ حالاً لا يَطَّرِدُ. الثاني: أنه منصوبٌ على المصدريةِ بفعلٍ مقدَّرٍ من لفظِه أي يَحْسُدونكم حَسَداً، والأولُ أظهرُ الثلاثة. قوله: { مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها، أنَّه متعلِّقٌ بوَدَّ، أي: وَدُّوا ذلك مِنْ قِبَلِ شَهَواتِهم لا من قبلِ التَدَيُّنِ، و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ. الثاني: أنه صفةٌ لـ " حَسَدا " ، فهو في محلِّ نصبٍ، ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: حَسَداً كائناً مِنْ قِبَلهم وشهوتِهم، ومعناه قريبٌ من الأول. الثالث: انه متعلِّقُ بيردُّونكم، و " مِنْ " للسببية، أي: يكونُ الردُّ مِنْ تِلْقائِهم وجِهَتِهم وبإغوائهم. قوله: " مِّن بَعْدِ مَا " متعلِّقٌ بـ " وَدَّ " ، و " مِنْ " للابتداءِ، أي إنَّ ودَادَتَهم ذلك ابتدأتْ من حينِ وضوحِ الحقِّ وتبيُّنِه لهم، فكفرُهم عنادٌ، و " ما " مصدريةٌ أي: مِنْ بعدِ تبيُّنِ الحقِّ. والحَسَدُ: تمنِّي زوالِ نعمةِ الإِنسانِ، المصدرُ: حَسَدٌ وحَسَادَة.