الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }

قوله تعالى: { مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ }: في " مِنْ " قولان: أحدهُما: أنها للتبعيضِ فتكونُ هي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ على الحال ويتعلَّقُ بمحذوف أي: ما يَوَدُّ الذين كفروا كائنين من أهلِ الكتابِ. الثاني: أنها لبيانِ الجنسِ وبه قالَ الزمخشري.

قوله: { وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ } عطفٌ على " أَهْلِ " المجرورِ بمِنْ و " لا " زائدةٌ للتوكيد لأنَّ المعنى: ما يَوَدُّ الذين كفروا مِنْ أهلِ الكتابِ والمشركين كقولِه:لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ } [البينة: 1] بغيرِ زيادة " لا ". وزعَمَ بعضُهم أنه مخفوضٌ على الجِوار وأنَّ الأصلَ: ولا المشركون، عطفاً على الذين وإنما خُفِض للمجاورة، نحو: " برؤوسكم وأرجلكِم " في قراءة الجر، وليس بواضح. وقال النحاس: " ويجوزُ: ولا المشركونَ بعطفِه على " الذين " وقال أبو البقاء: " وإنْ كان قد قرىء " ولا المشركون " بالرفع فهو عطفٌ على الفاعل، والظاهر أنه لم يُقْرأ بذلك " وهذان القولان يؤيِّدان ادِّعاءَ الخفضِ في الجوار.

قوله: { أَن يُنَزَّلَ } ناصبٌ ومنصوبٌ في تأويلِ مصدرٍ مفعولٌ بـ " يَوَدُّ " أي: ما يودُّ إنزالَ خيرٍ، وبُني الفعلُ للمفعولِ للعلمِ بالفاعلِ وللتصريحِ به في قولِه: " من ربكم " ، وأتى بـ " ما " في النفي دونَ غيرِها لأنَّها لنفي الحالِ وهم كانوا متلبِّسين بذلك.

قولُه: { مِّنْ خَيْرٍ } / هذا هو القائمُ مَقَامَ الفاعلِ، و " مِنْ " زائدةٌ، أي: أَنْ يُنَزَّل خيرٌ من ربكم. وحَسُنَ زيادتُها هنا وإنْ كان " يُنَزَّل " لم يباشِرْه حرفُ النفي لانسحابِ النفي عليه من حيث المعنى لأنه إذا نُفِيَتِ الوَدادَةُ انتفى مُتَعَلَّقُها.

وهذا له نظائرُ في كلامِهم نحو: " ما أظنُّ أحداً يقولُ ذلك إلا زيدٌ " برفع " زيدٌ " بدلاً من فاعِل " يقول " وإنْ لم يباشر النفيَ، لكنه في قوةِ: " ما يقولُ أحدٌ ذلك إلا زيدٌ في ظني " وقولِه تعالى:أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ } [الأحقاف: 33] زيدت الباءُ لأنه في معنى: أَوَلَيس اللهُ بقادرٍ، وهذا على رأي سيبويه وأتباعِه. وأمَّا الكوفيون والأخفش فلا يَحْتاجون إلى شَيءٍ من هذا. وقيل: " مِنْ " للتبعيض أي: ما يَوَدُّون أَنْ يُنَزَّلُ من الخيرِ قليلٌ ولا كثيرٌ، فعلى هذا يكونُ القائمُ مقامَ الفاعل: " عليكم " والمعنى: أَنْ يُنَزَّل عليكم بخير من الخُيور.

قوله: { مِّن رَّبِّكُمْ } في " مِنْ " أيضاً قولان، أحدُهما: أنَّها لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقُ بِيُنَزَّل. والثاني: أنها للتبعيضِ، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف تقديرُه: مِنْ خُيورِ ربِّكم، وتتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ، لأنَّها ومجرورَها صفةً لقولِه: " مِنْ خيرٍ " أي: مِنْ خيرٍ كائن من خيورِ ربِّكم، ويكونُ في محلِّها وجهان: الجرُّ على اللفظِ، والرفعُ على الموضعِ لأنَّ " مِنْ " زائدةٌ في " خير " فهو مرفوعٌ تقديراً لقيامهِ مَقامَ الفاعل كما تقدَّم.

السابقالتالي
2