الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }

قولُه تعالى: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }: الآية. الجارُّ والمجرورُ خبرٌ مقدمٌ واجبُ التقديمِ لِما تَقَدَّم ذِكْرُه في قوله:وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [البقرة: 7]. والمشهورُ تحريك الراءِ مِنْ " مَرَض " ، ورَوى الأصمعي عن أبي عمرو سكونَها، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَض. والمرضُ: الفتورُ، وقيل: الفساد، ويُطلق على الظلمة، وانشدوا:
178ـ في ليلةٍ مَرِضَتْ من كلِّ ناحيةٍ   فما يُحَسُّ بها نَجمٌ ولا قَمَرُ
أي لظلمتها، ويجوزُ أن يكونَ أراد بمَرِضَتْ فَسَدت، ثم بيَّن جهةَ الفسادِ بالظلمةِ.

وقوله: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }: هذه جملةٌ فعليةٌ معطوفةٌ على الجملةِ الاسميةِ قبلها، مُتَسَبِّبَةٌ عنها، بمعنى أنَّ سبب الزيادة حصولُ المرضِ في قلوبهم، إذ المرادُ بالمرض هنا الغِلُّ والحَسَد/ لظهور دين الله تعالى. و " زاد " يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غيرُ الأول كأعطى وكسا، فيجوز حذفُ معمولَيْه وأحدِهما اختصاراً واقتصاراً، تقول: زاد المال، فهذا لازمٌ، وزِدْتُ زيداً خيراً، ومنهوَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [الكهف: 13]، { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } " وزدتُ زيداً " ولا تذكر ما زِدْتَه، وزدْتُ مالاً، ولا تذكر مَنْ زِدْتَه وألفُ " زاد " منقلبةٌ عن ياء لقولهم: يزيدُ.

{ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } نظير قوله تعالى:وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [البقرة: 7] وقد تقدَّم. وأليم هنا بمعنى مُؤْلِم، كقوله:
179ـ ونَرْفَعُ مِنْ صدورِ شَمَرْدَلاتٍ   يَصُكُّ وجوهَها وَهَجٌ أليمُ
ويُجمع على فُعَلاء كشريف وشُرَفَاء، وأَفْعال مثل: شريف وأَشْراف، ويجوزُ أن يكونَ فعيل هنا للمبالغة مُحَوَّلاً من فَعِلَ بكسرِ العين، وعلى هذا يكون نسبةُ الألم إلى العذاب مجازاً، لأن الألم حَلَّ بمَنْ وَقَعَ به العذابُ لا بالعذاب، فهو نظيرُ قولهم: شِعْرٌ شاعِرٌ.

و { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } متعلِّقٌ بالاستقرارِ المقدَّرِ في " لهم " أي: استقر لهم عذابٌ أليم بسبب تكذيبهم. و " ما " يجوزُ أَنْ تَكونَ مصدريةً أي بكونِهم يكذبون وهذا على القول بأنَّ لـ " كان " مصدراً، وهو الصحيحُ عند بعضهم للتصريحِ به في قول الشاعر:
180ـ بِبَذْلٍ وحِلْمٍ ساد في قومه الفتى   وكونُك إياه عليكَ يَسيرُ
فقد صرَّح بالكون. ولا جائزٌ أن يكونَ مصدَر كان التامةِ لنصبِه [الخبر] بعدها، وهو: " إياه " ، على أن للنظر في هذا البيتِ مجالاً ليسَ هذا موضعَه. وعلى القول بأن لها مصدراً لا يجوز التصريحُ به معها، لا تقول: " كان زيد قائماً كوناً " ، قالوا: لأن الخبرَ كالعوضِ من المصدر، ولا يُجْمع بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه، وحينئذٍ فلا حاجةَ إلى ضميرٍ عائدٍ على " ما " لأنها حرفٌ مصدريٌّ على الصحيح خلافاً للأخفش وابنِ السراجِ في جَعْلِ المصدريَّة اسماً. ويجوز أن تكونَ " ما " بمعنى الذي، وحينئذ فلا بدَّ من تقديرِ عائدٍ أي: بالذي كانوا يكذِّبونه، وجاز حَذْفُ العائدِ لاستكمالِ الشروط، وهو كونُه منصوباً متصلاً بفعل، وليس ثَمَّ عائدٌ آخرُ.

السابقالتالي
2