الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً }

قوله: { وَقَرِّي عَيْناً }: " عَيْناً " نصبٌ على التمييز منقولٌ من الفاعل، إذ الأصلُ: لِتَقَرَّ عينُك. والعامَّة على فتحِ القاف مِنْ " قَرِّيْ " أمراً مِنْ قَرَّتْ عَيْنُه تَقَرُّ، بكسر العين في الماضي، وفتحِها في المضارع.

وقُرِئ بكسرِ القاف، وهي لغةُ نجدٍ يقولون: قَرَّتْ عينُه تَقِرُّ بفتح العين في الماضي وكسرِها في المضارع، والمشهورُ أن مكسورَ العين في الماضي للعين، والمفتوحَها في المكان. يقال: قَرَرْتُ بالمكانِ أَقِرُّ به، وقد يُقال: قَرِرْتُ بالمكانِ بالكسر. وسيأتي ذلك في قولِه تعالى:وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [الأحزاب: 33].

وفي وَصْفِ العين بذلك تأويلان، أحدُهما: أنَّه مأخوذٌ مِنَ " القُرّ " وهو البَرْدُ: وذلك أنَّ العينَ إذا فَرِح صاحبُها كان دَمْعُها قارَّاً أي بارداً، وإذا حَزِن كان حَرَّاً ولذلك قالوا في الدعاء عليه: " أَسْخَنَ اللهُ عينَه " ، وفي الدعاء له: " أقرَّ اللهُ عينَه. وما أَحْلى قولَ أبي تمام:
3230- فأمَّا عيونُ العاشِقينَ فَأُسْخِنَتْ   وأمَّا عيونُ الشامتينَ فَقَرَّتِ
والثاني: أنه مأخوذٌ من الاستقرار، والمعنى: أعطاه الله ما يُسَكِّنُ عينَه فلا تطمحُ إلى غيره.

قوله: { فَإِمَّا تَرَيِنَّ } دخلت " إنْ " الشرطية على " ما " الزائدة للتوكيد، فَأُدْغِمت فيها، وكُتِبَتْ متصلةً. و " تَرَيْنَ " تقدَّم تصريفُه. والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة وقرأ أبو عمروٍ في رواية " تَرَئِنَّ " بهمزة مكسورةٍ بدلَ الياء، وكذلك رُوي عنه " لَتَرَؤُنَّ " بإبدالِ الواوِ همزةُ. قال الزمخشري: " هذا مِنْ لغةِ مَنْ يقول: لَبَأْتُ بالحَجِّ وحَلأْتُ السَّوِيْقَ " - يعني بالهمز - وذلك لتآخٍ بين الهمز وحروف اللين ". وتجرَّأ ابن خالَوَيْة على أبي عمرو فقال: " هو لحنٌ عند أكثر النحويين ".

وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ وشيبة وطلحة " تَرَيْنَ " بياءٍ ساكنة ونونٍ خفيفة. قال ابن جني: " وهي شاذَّةٌ ". قلت: لأنه كان ينبغي أَنْ يُؤَثِّر الجازمُ، وتُحذفَ نونُ الرفع. كقول الأَفْوه:
3231- إمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ أَزْرَى به   ماسُ زمانٍ ذيٍ انتكاثٍ مَؤُؤْسِ
ولم يؤثِّرْ هنا شُذوذاً. وهذا نظيرُ قولِ الآخر:
3232- لولا فَوارسُ مِنْ نُعْمٍ وأُسْرَتِهِمْ   يومَ الصُّلَيْفاءِ لم يُوفُوْنَ بالجارِ
فلم يُعْمِلْ " لم " ، وأبقى نونَ الرفعِ.

و " من البشر " حالٌ من " أحداً " لأنه لو تأخَّر لكان وصفاً. وقال أبو البقاء: " أو مفعول " يعني أنه متلِّعق بنفسِ الفعل قبله.

قوله: فَقُولِيْ " بين هذا الجوابِ وشرطِه جملةٌ محذوفةٌ، تقديرُه: فإمَّا تَرَيْنَّ من البشر أحداً فسألكِ الكلامَ فَقُولي. وبهذا المقدَّر نَخْلُصُ من إشكالٍ: وهو أنَّ قولَها { فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } / كلامٌ، فيكون ذلك تناقضاً؛ لأنها قد كَلَّمَتْ إنْسِيَّاً بهذا الكلامِ. وجوابُه ما تَقَدَّم: وقيل: المرادُ بقوله " فقُولي " إلى آخره، أنه بالإِشارة. وليس بشيء. بل المعنى: فلن أكلِّمَ اليومَ إنْسِيَّاً بعد هذا الكلامِ.

وقرأ زيد بن علي " صِياماً " بدل " صوم " ، وهما مصدران.