قوله: { فَلاَ تُصَاحِبْنِي }: العامَّةُ على " تصاحِبْني " من المفاعلة. وعيسى ويعقوب: " فلا تَصْحَبَنِّي " مِنْ صَحِبَه يَصْحَبُه. وأبو عمروٍ في روايةٍ وأُبَيٌّ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الحاء، مِنْ أصحب يُصْحِب، ومفعولُه محذوفٌ تقديره: فلا تُصْحِبْني نفسك. وقرأ أُبَيٌّ " فلا تُصْحِبْني عِلْمَك " فأظهر المفعول. قوله: { مِن لَّدُنِّي } العامَّةُ على ضَمِّ الدالِ وتشديد النون. وذلك أنَّهم اَدْخلوا نونَ الوقايةِ على " لَدُن " لِتَقِيَها من الكسرِ محافَظَةً على سكونِها، كما حُوْفِظَ على سكونِ نون " مِنْ " و " عَنْ " فأُلْحِقَتْ بهما نونُ الوقايةِ فيقولون: مِنِّي وعَنِّي بالتشديد. ونافعٌ بتخفيف النون. والوجهُ فيه: أنه لم يُلْحِقْ نونَ الوقاية لـ " لَدُن ". إلا أنَّ سيبويه منع مِنْ ذلك وقال: " لا يجوزُ أَنْ تأتيَ بـ " لَدُنْ " مع ياء المتكلم دون نونِ وقاية ". وهذه القراءةُ حجةٌ عليه. فإنْ قيل: لِمَ لا يُقال: إن هذه النونَ نونُ الوقايةِ، وإنما اتصلَتْ بـ " لَدُ " لغةً في " لَدُن " حتى يتوافَقَ قولُ سيبويه مع هذه القراءة؟ قيل: لا يَصِحُّ ذلك من وجهين، أحدهما: أَنَّ نونَ الوقايةِ إنما جِيءَ بها لتقيَ الكلمةَ الكسرَ محافظةً على سكونها. ودون النون لا يُسَكِّنون؛ لأنَّ الدالَ مضمومةٌُ، فلا حاجةَ إلى النون. والثاني: أنَّ سيبويهِ يمنع أَنْ يُقال: " لَدُني " بالتخفيف. وقد حُذِفَتِ النونُ مِنْ " عَنْ " و " مِنْ " في قوله:
3183- أيُّها السَّائِلُ عنهم وعِنِيْ
لستُ من قيسٍ ولا قيسٌ مِنِيْ
ولكن تَحْتمل هذه القراءةُ أن تكون النونُ فيها أصليةً، وأن تكونَ للوقاية على أنها دخلَتْ على " لَدْ " الساكنة الدال، لغةً في " لدن " فالتقى ساكنان فكُسِرَتْ نونُ الوقاية على أصلها. وإذا قلنا بأنَّ النونَ أصليةٌ فالسكونُ تخفيفٌ كتسكين ضاد " عَضْد " وبابِه. وقرأ أبو بكرٍ بسكونِ الدال وتخفيفِ النون أيضاً، ولكنه أَشَمَّ الدالَ الضَّمَّ مَنْبَهة على الأصل. واختلف القرَّاء في هذا الإِشمامِ، فقائلٌ: هو إشارةٌ بالعضوِ مِنْ غيرِ صوتٍ كالإِشمام الذي في الوقف، وهذا هو المعروف. وقائلٌ: هو إشارةٌ للحركةِ المُدْرَكةِ بالحسِّ فهو كالرَّوْم في المعنى، يعني: أنه إتيانٌ ببعض الحركةِ. وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قولِه{ لاَ تَأْمَنَّا } [الآية: 11]، وفي قوله في هذه السورةِ " مِنْ لدنه " في قراءة شعبة أيضاً، وتقدَّم لك بحثٌ يعودُ مثلُه هنا. وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةٍ " عُذُراً " بضمتين. وعن أبي عمرو أيضاً " عُذْرِي " مضافاً لياءِ المتكلم. و { مِن لَّدُنِّي } متعلقٌ بـ " بَلَغْتَ " ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " عُذْرا ".