الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }

قوله: { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ }: أي: احبِسْها وثَبِّتْها، قال أبو ذؤيب:
3141- فصبَرْتُ عارفةً لذلك حُرَّة   تَرْسُو إذا نَفْسُ الجبانِ تَطَلَّعُ
وقوله: " بالغَداة " تقدَّم الكلامُ عليها في الأنعام.

قوله: { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ } فيه وجهان، أحدهما: أنَّ مفعولَه محذوفٌ، تقديرُه: ولا تَعْدُ عيناك النظرَ. والثاني: أنه ضُمِّنَ معنى ما يتعدَّى بـ " عَنْ ". قال الزمخشري: " وإنما عُدِّيَ بـ " عَنْ " لتضمين " عَدا " معنى نبا وعلا في قولِك: نَبَتْ عنه عيْنُه، وعلَتْ عنه عَيْنُه، إذا اقتحَمَتْه ولم تَعْلَقْ به. فإن قلت: أيُّ غرضٍ في هذا التضمين؟ وهَلاَّ قيل: ولا تَعْدُهم عيناك، أو: ولا تَعْلُ عيناك عنهم؟ قلت: الغرضُ فيه إعطاءُ مجموعِ معنيين، وذلك أقوى من إعطاءِ معنى فَذّ. ألا ترى كيف رَجَعَ المعنى إلى قولك: ولا تَقْتَحِمْهُمْ عيناك متجاوزتَيْنِ إلى غيرهم. ونحوهوَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } [النساء: 2]، أي: ولا تَضُمُّوها إليها آكلين لها ".

ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ مذهبَ البصريين أن التضمينَ لا ينقاس، وإنما يُصار إليه عند الضرورة. فإذا أمكن الخروجُ عنه فلا يُصار إليه.

وقرأ الحسن " ولا تُعْدِ عَيْنَيْكَ " مِنْ أَعْدى رباعياً. وقرأ هو وعيسى والأعمش " ولا تُعَدِّ " بالتشديد من عَدَّى يُعَدَّي مُضَعَّفاً، عدَّاه في الأولى بالهمزةِ وفي الثانيةِ بالتثقيلِ، كقولِ النابغة:
3142- فَعَدَّ عَمَّا تَرَى إذ لا ارْتِجاعَ له   وانْمِ القُتُوْدَ على عَيْرانَةٍ أُجُدِ
كذا قال الزمخشري وأبو الفضلِ. ورَدَّ عليهما الشيخ: بأنه لو كان تعدِّيه في هاتين القراءتين بالهمزةِ أو التضعيفِ لَتَعَدَّى لاثنين، لأنه قبل ذلك متعدٍّ لواحدٍ بنفسه. وقد أقرَّ الزمخشري بذلك حيث قال: " يقال: عَدَاه إذا جاوزه، وإنما عُدِّي بـ عن لتضمُّنِه معنى علا ونبا، فحينئذٍ يكون أَفْعَل وفَعَّلَ مِمَّا وافقا المجردَ " وهو اعتراضٌ حسنٌ.

قوله: " تُريد " جملةٌ حالية. ويجوز أن يكونَ فاعلُ " تريد " المخاطبَ، أي: تريد أنت. ويجوز أن يكون ضمير العينين، وإنما وُحِّد لأنهما متلازِمان يجوز أَنْ يُخْبِرَ عنهما خبرُ الواحد. ومنه قولُ امرئ القيس:
3143- لِمَنْ زُحْلُوقَةٌ زُلَّ   بها العَيْنان تَنْهَلُّ
وقولُ الآخر:
3144- وكأنَّ في العينين حَبَّ قَرَنْفُلٍ   أو سُنْبُلاً كُحِلَتْ به فانهَلَّتِ
وفيه غيرُ ذلك. ونسبةُ الإِرادةِ إلى العينين مجازٌ. وقال الزمخشري: " الجملةُ في موضعِ الحال ". قال الشيخ: " وصاحبُ الحالِ إنْ قُدِّرَ " عَيْناك " فكان يكون التركيبُ: تريدان ". قلت: غَفَل عن القاعدةِ التي ذكرْتُها: من أنَّ الشيئين المتلازمين يجوز أن يُخْبَرَ عنهما إخبارُ الواحدِ. ثم قال: " وإن قَدَّر الكافَ فمجيءُ الحالِ من المجرورِ بالإِضافةِ مثلَ هذا فيه إشكالٌ، لاختلافِ العامل في الحالِ وذي الحال.

السابقالتالي
2