الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً }

قوله: { قَيِّماً }: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه حالٌ من " الكتاب ". والجملةُ مِنْ قولِه " ولم يَجْعَلْ " اعتراضٌ بينهما. وقد مَنَع الزمخشريُّ ذلك فقال: " فإنْ قُلْتَ: بم انتصَبَ " قَيِّماً "؟ قلت: الأحسنُ أن ينتصِبَ بمضمرٍ، ولم يُجْعَلْ حالاً من " الكتابَ " لأنَّ قولَه " ولم يَجْعَلْ " معطوفٌ على " أَنْزَلَ " فهو داخلٌ في حَيِّزِ الصلةِ، فجاعِلُه حالاً فاصِلٌ بين الحالِ وذي الحالِ ببعضِ الصلةِ ". وكذلك قال أبو البقاء. وجوابُ هذا ما تقدَّمَ مِنْ أَنَّ الجملةَ اعتراضٌ لا معطوفةٌ على الصلةِِ.

الثاني: أنَّه حالٌ مِنَ الهاءِ في " له ". قال أبو البقاء: " والحالُ موكِّدةٌ. وقيل: منتقلةٌ ". قلت: القولُ بالانتقالِ لا يَصِحُّ.

الثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، تقديرُه: جَعَلَهُ قيِّماً. قال الزمخشريُّ: " تقديرُه: ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً، جعله قيماً، لأنه إذا نفى عنه العِوَج فقد أثبتَ له الاستقامةَ ". قال: " فإنْ قلتَ: ما فائدة الجمعِ بين نَفْيِ العِوَجِ وإثباتِ الاستقامةِ وفي أحدِهما غِنَىً عن الآخر؟. قلت: فائدتُه التأكيدُ فَرُبَّ مستقيمٍ مشهودٌ له بالاستقامةِ، ولا يَخْلو مِنْ أدنى عِوَجٍ عند السَّبْرِ والتصفُّح ".

الرابع: أنَّه حالٌ ثانيةٌ، والجملةُ المنفيَّةُ قبلَه حالٌ أيضاًً، وتعدُّدُ الحالِ لذي حالٍ واحدٍ جائزٌ. والتقديرُ: أنزلَه غيرَ جاعلٍ له عِوجاً قيِّماً.

الخامس: أنه حالٌ أيضاً، ولكنه بدلٌ من الجملةِ قبلَه لأنَّها حال، وإبدالُ المفردِ من الجملةِ إذا كانت بتقدير مفردٍ جائزٌ. والتقديرُ: وهذا كنا أُبْدِلَتِ الجملةُ من المفردِ في قولهم: " عَرَفْتُ زيداً أبو مَنْ هو ".

والضميرُ في " له " فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه للكتاب، وعليه التخاريجُ المتقدمةُ. والثاني: أنَّه يعود على " عبدِه " ، وليس بواضحٍ.

وقرأ العامَّةُ بتشديد الياء. وأبانُ بنُ تَغْلبَ بفتحِها خفيفةً. وقد تَقَدَّم القولُ فيها.

ووقف حفصٌ على تنوينِ " عِوَجاً " يُبْدله ألفاً، [ويسكت] سكتةً لطيفةً من غير قَطْع نَفَسٍ، إشْعاراً بأنَّ " قَيِّماً " ليس متصلاً بـ " عِوَجاً " ،وإنما هو مِنْ صفةِ الكتاب. وغيرُه لم يَعْبَأْ بهذا الوهمِ فلم يسكتْ اتِّكالاً على فَهْمِ المعنى.

قلت: قد يتأيَّد ما فعله حفصٌ بما في بعضِ مصاحفِ الصحابةِ: " ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً، لكنْ جَعَلَه قيَّماً ". وبعض القراء يُطْلِقُ فيقول: يَقِف على " عِوَجا " ، ولم يقولوا: يُبدل التنوين ألفاً، فيُحْتمل ذلك، وهو أقربُ لغرضِه فيما ذكرْتُ.

ورَأيْتُ الشيْخَ شهابَ الدين أبا شامة قد نقل هذا عن ابنِ غلبون وأبي علي الأهوازيِّ، أعني الإِطلاقَ. ثم قال: " وفي ذلك نَظَرٌ - أي على إبدالِ التنوين ألفاً - فإنه لو وَقَفَ على التنوين لكان أَدَلَّ على غرضِه، وهو أنه واقفٌ بنيَّةِ الوصلِ ".

السابقالتالي
2 3