الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً }

قوله تعالى: { لِدُلُوكِ }: في هذه اللامِ وجهان، أحدُهما: أنها بمعنى " بَعْد " ، أي: بَعْدَ دُلوكِ الشمسِ، ومثلُه قول متمم بن نويرة:
3090- فلمَّا تَفَرَّقْنا كأني ومالِكاً   لطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معاً
ومثلُه قولُهم: " كَتَبَتْه لثلاثٍ خَلَوْنَ ". والثاني: أنها على بابها، أي: لأجلِ دُلُوك. قال الواحدي: " لأنها إنما تَجِبُ بزوالِ الشمس ".

والدُّلوك: مصدرُ دَلَكت الشمسُ، وفيه ثلاثةُ أقوالٍ، أشهرُها: أنه الزوالُ، وهو نِصْفُ النهار. والثاني: أنه من الزوال إلى الغروب. قال الزمخشري: " واشتقاقُه من الدَّلْكِ؛ لأنَّ الإِنسانَ يَدْلُكُ عينَه عند النظرِ إليها ". قلت: وهذا يُفْهِم أنه ليس بمصدرٍ؛ لأنه جعله مشتقاً من المصدرِ. والثالث: أنه الغروبُ، وأنشد الفراءُ عليه قولَه:
3091- هذا مُقامُ قَدَمَيْ رَباحِ   ذَبَّبَ حتى دَلَكَتْ بَِرَاحِ
أي: غَرَبَتْ بَراحِ، وهي الشمسُ. وأنشد ابن قتيبة على ذلك قولَ ذي الرمة:
3092- مصابيحُ ليسَتْ باللواتي تقودها   نُجومٌ ولا بالآفلاتِ الدوالِكِ
أي: الغارِبات: وقال الراغب: دُلُوْكٌ الشمسِ مَيْلُها للغُروب، وهو مِنْ قولِهم: دَلَكْتُ الشمسَ: دفعتُها بالرَّاح، ومنه: دَلَكْتُ الشيءَ في الراحةِ، ودَلَكْتُ الرجلَ: ماطَلْتُه، والدَّلُوك: ما دَلَكْتَه مِنْ طِيبٍ، والدَّلِيْكُ: طعامٌ يُتَّخذ مِنْ زُبْدٍ وتَمْر ".

قوله: { إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيْلِ } في هذا الجارِّ وجهان، أحدٌهما: أنه متعلِّقٌ بـ أَقِمْ " فهي لانتهاءِ غايةِ الإِقامةِ، وكذلك اللامُ في " لِدُلوك " متعلقةٌ به أيضاً. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " الصلاة " ، أي: أَقِمْها مَمْدودةً إلى غَسَق الليل، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ: من حيث إنه قَدَّر المتعلِّق كوناً مقيداً، إلا أَنْ يريدَ تفسيرَ المعنى لا الإِعرابِ.

والغَسَقُ: دخولُ أولِ الليل، قاله ابنُ شميل. وأنشد:
3093- إنَّ هذا الليلَ قد غَسَقا   واشتكيْتُ الهَمَّ والأرقا
وقيل: هو سَوادُ الليلِ وظُلْمَتُه، وأصلُه من السَّيَلان: غَسَقَتِ العين، أي: سالَ دَمْعُها فكأن الظُّلْمَةَ تَنْصَبُّ على العالَم وتَسِيْل عليهم قال:
3094- ظلَّتْ تجودُ يداها وهي لاهِيَةٌ   حتى إذا هَجَمَ الإِظْلامُ والغَسَقُ
ويُقال: غَسَقَتِ العينُ: امتلأَتْ دَمْعاً، وغَسَقَ الجرحُ: امتلأَ دَماً، فكأنَّ الظُّلْمَةَ مَلأَتْ الوجودَ. والغاسِقُ في قوله:وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ } [الفلق: 3] قيل: المرادُ به القمرُ إذا كَسَف واسْوَدَّ. وقيل: الليل. والغَساقُ بالتخفيف والتشديدِ ما يَسِيل مِنْ صَديدِ أهل النار. ويُقال: غَسَق الليلُ وأَغْسَقَ، وظَلَمَ وَأَظْلَمَ، ودَجَى وأَدْجَى، وغَبَشَ وأَغْبَشَ، نقله الفرَّاء.

قوله: { قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ } فيه أوجهٌ، أحدها: أنه عطفٌ على " الصلاة " ، أي: وأَقِمْ قرآنَ الفجرِ، والمرادُ به صلاةُ الصبحِ، عَبَّر عنها ببعضِ أركانِها. والثاني: أنه منصوبٌ على الإِغراء، أي: وعليك قرآنَ الفجر، كذا قدَّره الأخفشُ وتَبِعه أبو البقاء، وأصولُ البصريين تَأْبَى هذا؛ لأنَّ أسماءَ الأفعالِ لا تعملُ مضمرةً. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ، أي: كَثِّر قرآنَ أو الزَمْ قرآنَ الفجرِ.