الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً }

قوله تعالى: { وَٱسْتَفْزِزْ }: جملةٌ أمريةٌ عُطِفَتْ على مِثلِها من قولِه " اذهَبْ ". و { مَنِ ٱسْتَطَعْتَ } يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنها موصولةُ في محلِّ نصب مفعولاً للاستفزاز، أي: استفزِزْ الذي استطعْتَ استفزازَه منهم. والثاني: أنها استفهاميةٌ منصوبةُ المحلِّ بـ " استطعْتَ " قاله أبو البقاء، وليس بظاهرٍ لأنَّ " اسْتَفْزِزْ " يطلبه مفعولاً به، فلا يُطقع عنه، ولو جَعَلْناه استفهاماً لكان مُعَلَّقاً له، وليس هو بفعلٍ قلبي/ فيعلَّق.

والاسْتِفْزاز: الاستخفاف، واستفزَّني فلانٌ: استخفَّني حتى خَدَعني لمِا يريده. قال:
3079- يُطيع سَفيهَ القوم إذ يستفزُّه   ويَعْصي حليماً شَيَّبَتْه الهزاهِزُ
ومنه سُمِّي ولدُ البقرة " فزَّاً ". قال الشاعر:
3080- كما استغاثَ بسَيْءٍ فَزُّ غَيْطَلَةٍ   خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ
وأصلُ الفَزِّ: القَطْعُ، يقال: تَفَزَّز الثوبُ، أي: تقطَّع.

قوله: " وأَجْلِبْ " ، أي: اجْمَعْ عليهم الجموعَ مِنْ جُنْدِك يقال: أَجْلَبَ عليه وجَلَبَ، أي: جَمَعَ عليه الجموعَ. وقيل: أَجْلَبَ عليه: توعَّده بشرٍّ. وقيل: أَجْلَبَ عليه: أعان، وأجلب، أي: صاح صِياحاً شديداً، ومنه الجَلَبَة، أي: الصِّياح.

قوله: " وَرَجِلِك " قرأ حفصٌ بكسرِ الجيمِ، والباقون بسكونها، فقراءة حفصٍ " رَجِل " فيها بمعنى رَجُل بالضم بمعنى راجل يُقال: رَجِلَ يَرْجَلُ إذا صار راجِلاً، فيكون مثل: حَذِر وحَذُر، ونَدِس ونَدُس، وهو مفردٌ أريد به الجمعُ. وقال ابن عطية: هي صفةٌ يقال: فلان يمشي رَجِلاً إذا كان غيرَ راكبٍ، ومنه قولُ الشاعر:
3081-...................   ...... رَجِلاً إلا بأصحابي
قلت: يشير إلى البيتِ المشهور وهو:
فما أُقاتلُ عن ديني على فَرَسي   إلا كذا رَجِلاً إلا بأصحابي
أراد: فارساً ولا راجلاً.

وقال الزمخشريُّ: " على أن فَعِلاً بمعنى فاعِل نحو: تَعِب وتاعب، ومعناه: وجَمْعك الرَّجِلُ، وتُضَمُّ جيمُه أيضاً فيكون مثلَ: حَذُر وحَذِر، ونَدُس ونَدِس، وأخواتٍ لهما ".

وأما قراءةُ الباقين فتحتملُ أَنْ تكون تخفيفاً مِنْ " رَجِل " بكسر الجيم أو ضمِّها، والمشهورُ: أنه اسمُ جمع لراجِل كرَكْب وصَحْب في راكِب وصاحِب. والأخفش يجعل هذا النحوَ جمعاً صريحاً.

وقرأ عكرمةُ " ورِجالك " جمع رَجِل بمعنى راجِل، أو جمع راجِل كقائم وقيام. وقُرِئ " ورُجَّالك " بضمِّ الراء وتشديد الجيم، وهو جمع راجِل كضارِب وضُرَّاب.

والباء في " بخَيْلِك " يجوز أن تكونَ الحالية، أي: مصاحَباً بخيلك، وأن تكون مزيدةً كقوله:
3082-..........................   .......... لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَر
وقد تقدَّم في البقرة.

قوله: { وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ } من بابِ الالتفاتِ وإقامةِ الظاهر مُقامَ المضمرِ؛ إذ لو جَرَى على سَنَنِ الكلامِ الأول لقال: وما تَعِدُهم، بالتاء من فوق.

قوله: { إِلاَّ غُرُوراً } فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ وهو نفسُه مصدرٌ، الأصل: إلا وَعْداً غروراً، فيجيء فيه ما في " رجلٌ عَدْلٌ " ، أي: إلا وَعْداً ذا غرور، أو على المبالغة أو على: وعداً غارَّاً، ونسب الغرورَ إليه مجازاً. الثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه، أي: ما يَعِدُهم ممَّا يَعِدُهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغُرور. الثالث: أنه مفعولٌ به على الاتِّساع، أي: ما يَعِدُهم إلا الغرورَ نفسَه.