الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }

قوله تعالى: { وَلاَ تَقْفُ }: العامَّةُ على هذه القراءةِ، أي: لا تَتَّبِعْ، مِنْ قفاه يقْفوه إذا تتبَّع أثرَه، قال النابغة:
3062- ومثلُ الدُّمى شُمُّ العَرانينِ ساكنٌ   بهنَّ الحياءُ لا يُشِعْنَ التَّقافيا
وقال الكميت:
3063- فلا أَرْمي البريْءَ بغيرِ ذنبٍ   ولا أَقْفو الحواصِنَ إن قُفِيْنا
وقرأ زيدُ بن عليّ: " ولا تَقْفُو " بإثباتِ الواو، وقد تقدَّم أن إثباتَ حرفِ العلةِ جزماً لغةُ قوم، وضرورةٌ عندهم غيرهم كقوله:
3064-........................   مِنْ هَجْوِ زبَّانَ لم تَهْجُو ولم تَدَعِ
وقرأ معاذ القارئ " ولا تَقُفْ " بزنةِ تَقُلْ، مِنْ قاف يَقُوف، أي: تَتَبَّع أيضاً، وفيه قولان: أحدُهما: أنه مقلوبٌ مِنْ قفا يَقْفُو، والثاني - وهو الأظهرُ- أنه لغةٌ مستقلةٌ جيدة كجَبَذَ وجَذَب، لكثرة الاستعمالين، ومثله: قَعا الفحلُ الناقةَ وقاعَها.

قوله: " والفُؤادَ " قرأ الجَرَّاح العقيلي بفتح الفاء وواوٍ خالصة. وتوجيهُها: أنه أبدل الهمزةَ واواً بعد الضمة في القراءةِ المشهورة، ثم فتح فاءَ الكلمة بعد البدلِ لأنها لغةٌ في الفؤاد، يقال: فُؤَاد وفَآد، وأنكرها أبو حاتمٍ، أعني القراءةَ، وهو معذورٌ.

والباء في " به " متعلقةٌ بما تَعَلَّق به " لك " ولا تتعلَّق بـ " عِلْم " لأنه مصدر، إلا عند مَنْ يتوسَّع في الجارِّ.

قوله: " أولئك " إشارة إلى ما تقدَّم من السمعِ والبصر والفؤادِ كقوله:
3065- ذُمَّ المنازلَ بعد منزلةِ اللَّوَى   والعيشَ بعد أولئك الأيامِ
فـ " أولئك " يُشار به إلى العقلاءِ وغيرِهم من الجموع. واعتذر ابنُ عطيةَ عن الإِشارةِ به لغير العقلاءِ فقال: " وعَبَّر عن السمعِ والبصَرِ والفؤاد بـ " أولئك " لأنها حواسُّ لها إدراكٌ، وجعلها في هذه الآيةِ مسؤولةً فهي حالةُ مَنْ يَعْقِلُ، ولذلك عَبَّر عنها بكنايةِ مَنْ يَعْقِلُ، وقد قال سيبويه - رحمه الله - في قولهرَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف: 4] إنما قال " رأيتُهم " في نحوم؛ لأنه لَمَّا وصفها بالسجود - وهو فِعْل مَنْ يَعْقِل - عَبَّر عنها بكنايةِ مَنْ يَعْقِلُ. وحكى الزجاج أنَّ العرب تُعَبِّر عَمَّن يَعْقِلُ وعَمَّن لا يَعْقِل بـ " أولئك " ، وأنشد هو والطبري:
- ذمَّ المنازلَ بعد منزلة اللَّوى   والعيشَ بعد أولئكَ الأيامِ
وأمَّا حكايةُ أبي إسحاقَ عن اللغةِ فأمرٌ يُوْقَفُ عنده، وأمَّا البيتُ فالروايةُ فيه " الأقوامِ ". ولا حاجةَ إلى هذا الاعتذارِ لِما عرفْتَ.وأمَّا قولُه: إنَّ الروايةَ: " الأقوامِ " فغيرُ معروفةٍ والمعروفُ إنما هو " الأيَّام ".

قوله: { كُلُّ أُولـٰئِكَ } مبتدأٌ، والجملةُ مِنْ " كان " خبرُه، وفي اسمِ " كان " وجهان، أحدُهما: أنه عائدٌ على " كل " باعتبارِ لفظِها، وكذا الضميرُ في " عنه " ، و " عنه " متعلقٌ بـ " مَسْؤولاً " ، و " مسؤولاً " خبرُها.

السابقالتالي
2