الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً }

قوله تعالى: { جَنَاحَ ٱلذُّلِّ }: هذه استِعارةٌ بليغة، قيل: وذلك أنَّ الطائرَ إذا أراد الطيرانَ نَشَرَ جناحَيْه ورَفَعَهما ليرتفعَ، وإذا أراد تَرْكَ الطيران خَفَضَ جناحيه، فجعلَ خَفْضَ الجناحِ كنايةً عن التواضعِ واللِّين. قال الزمخشري: " فإنْ قلتَ: ما معنى جَناح الذُّل؟ قلت: فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ المعنى: واخفِضْ لهما جناحَك كما قال: " واخفِضْ جناحَك للمؤمنين " فأضافه إلى الذُّل أو الذِّل كما أَضيف حاتمٌ إلى الجودِ على معنى: واخفِضْ لهما جناحَك الذليلَ أو الذَّلولَ. والثاني: أن تَجعلَ لذُلِّه أو لذِلِّه جناحاً خفيضاً، كما جعل لبيد للشَمال يداً وللقَرَّةِ زِماماً- في قوله:
3051- وغداةِ ريحٍ قد كَشَفْتُ وقَرَّةٍ   إذ أصبحَتْ بيدِ الشَمال؟ِ زِمامُها
مبالَغةً في التذلُّل والتواضع لهما " انتهى. يعني أنه عبَّر عن اللينِ بالذُّلِ، ثم استعار له جناحاً، ثم رشَّح هذه الاستعارةَ بأَنْ أمرَه بخفضِ الجَناح.

ومِنْ طريفِ ما يُحكى: أن أبا تمام لَمَّا نظَم قوله:
3052- لا تَسْقِني ماءَ المَلام فإنني   صَبٌّ قد اسْتَعْذَبْتَ ماء بكائي
جاءه رجلٌ بقَصْعةٍ وقال له: أَعْطني شيئاً من ماء المَلام. فقال: حتى تأتيَني بريشةٍ مِنْ جَناح الذُّلِّ " يريد أن هذا مجازُ استعارةٍ كذاك. وقال بعضهم:
3053- أراشُوا جَناحِيْ ثم بَلُّوه بالنَّدى   فلم أَسْتَطِعْ مِنْ أَرْضِهم طَيَرانا
وقرأ العامَّةُ " الذُّلِّ " بضم الذَّال، وابن عباس في آخرين بكسرها، وهي استعارةٌ؛ لأنَّ الذِّلَّ في الدوابِّ لأنه ضدُّ الصعوبة، فاستعير للأناسيِّ، كما أن الذُّلَّ بالضمَّ ضدُّ العِزِّ.

قوله: { مِنَ ٱلرَّحْمَةِ } فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها للتعليل فتتعلق بـ " اخفِضْ " ، أي: اخفِضْ مِن أجل الرحمة. والثاني: أنها لبيانِ الجنس. قال ابنُ عطية: " أي: إنَّ هذا الخفضَ يكون من الرحمة المستكنَّة في النفس ". الثالث: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ " جَناح ". الرابع: أنها لابتداءِ الغاية. قوله: { كَمَا رَبَّيَانِي } في هذه الكافِ قولان، أحدهما: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوف، فقدَّره الحوفيُّ: " ارْحَمْهما رحمةً مثلَ تربيتِهما لي ". وقدَّره أبو البقاء: " رحمةً مثلَ رحمتِهما " ، كأنه جعل التربيةَ رحمةً. الثاني: أنها للتعليل، أي: ارْحَمْهما لأجلِ تربيتِهما كقولِه:وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } [البقرة: 198].