الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلإِنْفَاقِ وَكَانَ ٱلإنْسَانُ قَتُوراً }

قوله تعالى: { لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ }: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: - وإليه ذهب الزمخشري والحوفي وابن عطية وأبو البقاء ومكي - أن المسألة من بابِ الاشتغال، فـ " أنتم " مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره هذا الظاهرُ، لأنَّ " لو " لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً، فهي كـ " إنْ " في قولِه تعالى:وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 6] وفي قوله:
3111- وإن هو لم يَحْمِلْ على النفس ضَيْمَها   فليس إلى حُسْنِ الثَّناء سبيلُ
والأصل: لو تملكون، فحذف الفعلَ لدلالةِ ما بعده عليه فانفصل الضميرُ وهو الواوُ؛ إذ لا يمكن بقاؤُه متصلاً بعد حَذْف رافِعِه. ومثلُه: " وإن هو لم يَحْمِلْ " الأصلُ: وإن لم يَحْمل، فلمَّا حُذِف الفعلُ انفصل ذلك الضميرُ المستتر وبَرَزَ، ومثلُه فيما نحن فيه قولُ الشاعر: لو ذاتُ سِوارٍ لَطَمَتْني " ، وقولُ المتلمس:
3112- ولو غيرُ أَخْوالي أرادُوا نَقِيْصَتي   ............................
فـ " ذاتُ سوار " مرفوعةٌ بفعلٍ مفسَّرٍ بالظاهرِ بعده.

الثاني: أنه مرفوعٌ بـ " كان " وقد كَثُر حَذْفُها بعد " لو " والتقدير: لو كنتم تملكون، فَحُذِفَتْ " كان " فانفصل الضمير، و " تملكون " في محلِّ نصبٍ بـ " كان " وهو قولُ ابنِ الصائغِ. وقريبٌ منه قولُه:
3113- أبا خُراشَةَ أمَّا أنتَ ذا نَفَرٍ   ..............................
فإنَّ الأصلَ: لأَنْ كنتَ، فحُذِفَتْ " كان " فانفصل الضمير إلا أنَّ هنا عُوِّض مِنْ " كان " " ما " ، وفي " لو " لم يُعَوَّض منها.

الثالث: أنَّ " أنتم " توكيدٌ لاسمِ " كان " المقدرِ معها، والأصلُ " لو كنتم أنتم تملِكُون " فَحُذِفَتْ " كان " واسمها وبقي المؤكِّد، وهو قولُ ابن فضَّال المجاشعي. وفيه نظرٌ من حيث إنَّا نحذِفُ ما في التوكيد، وإن كان سيبويه يُجيزه.

وإنما أحوجَ هذين القائلَيْن إلى ذلك: كونُ مذهب البصريين في " لو " أنَّه لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً، ولا يجوز عندهم أَنْ يليَها مضمراً مفسِّراً إلى في ضرورةٍ أو ندورٍ كقوله: " لو ذاتَ سِوَارٍ لطمَتْني ". فإن قيل: هذان الوجهان: أيضاً فيهما إضمار فعلٍ. قيل: ليس هو الإِضمارَ المَعْنِيَّ؛ فإنَّ الإِضمارَ الذي أَبَوْه على شريطةِ التفسير في غير " كان " ، وأمَّا " كان " فقد كَثُر حَذْفُها بعد " لو " في مواضعَ كثيرةٍ. وقد وقع الاسمُ الصريحُ بعد " لو " غيرَ مذكورٍ بعده فعلٌ، أنشد الفارسي:
3114- لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ   كنت كالغصَّانِ بالماءِ اعتصاري
إلا أنه خرَّجه على أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدر يُفَسِّره الوصفُ مِنْ قولِه " شَرِقٌ ". وقد تقدَّم تحقيق القول في " لو " فلنقتصِرْ على هذا.

قوله: { لأمْسَكْتُمْ } يجوز أن يكونَ لازماً لتضمُّنِه معنى بَخَلْتُمْ، وأن يكونَ متعدِّياً، ومفعولُه محذوفٌ، لأَمْسَكْتُم المال، ويجوز أن يكونَ كقولِهيُحْيِـي وَيُمِيتُ } [البقرة: 258].

قوله: { خَشْيَةَ ٱلإِنْفَاقِ } فيه وجهان، أظهرهما: أنه مفعولٌ مِنْ أجله.

والثاني: أنه مصدرٌ في موضع الحال، قاله أبو البقاء، أي: خاشِين الإِنفاقَ. وفيه نظرٌ؛ إذ لا يقع المصدرُ المعرَّفُ موقعَ الحالِ إلا سماعاً نحو: " جَهْدَك " و " طاقتَك " و [كقوله:]
3115- وأرسلها العِراك...........   .............................
ولا يُقاسُ عليه. والإِنفاقُ مصدرُ أنفق، أي: أَخْرَجَ المالَ. وقال أبو عبيدة: " وهو بمعنى الافتقار والإِقتار ".