الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ }

قوله تعالى: { نُّسْقِيكُمْ }: يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مفسرةً للعِبْرة، كأنه قيل: كيف العِبْرة؟ فقيل: نُسْقيكم من بينِ فَرْثٍ ودمٍ لبناً خالصاً. ويجوز أن تكونَ خبراً لمبتدأ مضمر، والجملةُ جوابٌ لذلك السؤالِ، أي: هي، أي: العِبْرَةُ نُسْقيكم، ويكون كقولهم: تَسْمَعُ بالمُعْيدِيَّ خيرٌ من أَنْ تَراه ".

وقرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر " نَسْقيكم " بفتح النون هنا وفي المؤمنين. والباقون بضمَّها فيهما. واختلف الناس: هل سَقَى وأَسْقى لغتان، بمعنىً واحدٍ أم بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهور. فقيل: هما بمعنىً، وأنشد جمعاً بين اللغتين:
2290- سَقَى قومي بني مَجْدٍ وأسْقَى   نُمَيْراً والقبائلَ من هلالِ
دعا للجميع بالسَّقْيِ والخِصْب. و " نُمَيْراً " هو المفعول الثاني: أي: ماءٌ نُمَيْراً. وقال أبو عبيد: " مَنْ سَقَى الشِّفَةِ: سَقَى فقط، ومَنْ سقى الشجرَ والأرضَ. أَسْقَى، وللداعي بالسُّقْيَا وغيرها: أَسْقَى فقط ". وقال الأزهري: " العربُ تقول ما كان من بطونِ الأنعام، ومن السماء، أو نهرٍ يجري، أَسْقَيْتُ، أي: جَعَلْتُ شِرْباً له وجَعَلْتُ له منه سُقْيَا؟، فإذا كان للشَّفَة قالوا: سَقَى، ولم يقولوا: أسقى ".

وقال الفارسي: " سَقَيْتُه ختى رَوِيَ، وأَسْقَيْتُه نهراً، أي: جَعَلْتُه له شِرْباً ". وقيل " سَقاه إذا ناوله الإِناءَ ليشربَ منه، ولا يُقال مِنْ هذا: أَسْقاه.

وقرأ أبو رجاء " يُسْقِيْكم " بضمِّ الياء من أسفلَ وفي فاعلِه وجهان، أحدُهما: هو الله تعالى، الثاني: أنه ضميرُ النَّعَمِ المدلولُ عليه بالأنعامِ، أي: نَعَماً يُجْعَلُ لكم سُقْيا. وقُرئ " تًسْقيكم " بفتح التاء من فوق. قال ابن عطية: " وهي ضعيفةٌ ". قال الشيخ: " وضَعْفُها عنده - والله أعلمُ - أنه أنَّثَ في " تِسْقِيْكم " ، وذَكَّر في قوله { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } ، ولا ضَعْفَ مِنْ هذه الجهةِ؛ لأنَّ التذكيرَ والتأنيثَ باعتبارين ". قلت " وضَعْفُها عنده من حيث المعنى: وهو أنَّ المقصودَ الامتنانُ على الخَلْقِ فنسبةُ السَّقْيِ إلى اللهِ تعالى هو الملائِمُ، لا نِسْبتُه إلى الأنعام.

قوله: { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } يجوز أن تكونَ " مِنْ " للتبعيض، وأن تكونَ لابتداءِ الغاية. وعاد الضميرُ هنا على الأنعام مفرداً مذكراً. قال الزمخشري: " ذكر سيبويه الأنعامَ في باب " ما لا ينصرف " في الأسماءِ المفردةِ الواردةِ على أَفْعال كقولهم: ثوبٌ أَكْياش، ولذلك رَجَع الضميرُ إليه مفرداً، وأمَّا " في بطونها " في سورة المؤمنين فلانَّ معناه جمع. ويجوز أن يُقال في " الأنعام " وجهان، أحدهما: أن يكون تكسير " نَعَم " كأَجْبال في جَبَل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع [كَنَعم]، فإذا ذُكِّرَ فكما يُذكَّرُ " نَعَم " في قوله:

السابقالتالي
2 3