الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }

قوله تعالى: { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا }: العامَّةُ على النصبِ وفيه وجهان، أحدُهما: نصبٌ على الاشتغالِ،وهو أرجحُ مِن الرفعِ لتقدُّمِ جملةٍ فِعليةٍ. والثاني: أنه نصبٌ على عَطْفِه على " الإِنسان " ، قاله الزمخشريُّ وابنُ عطية، فيكون " خَلَقَها " على هذا مؤكِّداً، وعلى الأول مفسِّراً. وقُرئ في الشاذِّ " والأنعامُ " رفعاً وهي مَرْجُوحَةٌ.

قوله: { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } يجوز أن يَتَعَلَّقَ " لكم " بـ " خَلَقَها " ، أي: لأجلِكم ولمنافعِكم، ويكون " فيها " خبراً مقدماً، " ودِفْءٌ " مبتدأً مؤخراً. ويجوز أن يكونَ " لكم " هو الخبر، و " فيها " متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الخبرُ، أو يكونَ " فيها " حالاً من " دِفْء " لأنه لو تاخَّر لكان صفةً له، أو يكونَ " فيها " هو الخبرَ، و " لكم " متعلِّقٌ بما تعلَّق به، أو يكونَ حالاً مِنْ " دِفْء " قاله أبو البقاء. ورَدَّه الشيخ بأنه إذا كان العاملُ في الحال معنوياً فلا يتقدَّم على الجملةِ بأسرها، لا يجوز: " قائماً في الدار زيدٌ " فإنْ تأخَّرَتْ نحو: " زيدٌ في الدار قائماً " جازَ بلا خلافٍ، أو توسَّطَتْ/ فخلافٌ، أجازه الأخفشُ، ومنعه غيرُه.

قلت: ولقائلٍ أن يقولَ: لَمَّا تقدَّمَ العاملُ فيها وهي معه جاز تقديمُها عليه بحالها، إلاَّ أنْ يقولَ: لا يَلْزَمُ مِنْ تقديمِها عليه وهو متأخرٌ تقديمُها عليه وهو متقدمٌ، لزيادةِ القبح.

وقال أبو البقاء أيضاً: " ويجوز أَنْ يرتفعَ " دِفْء " بـ " لكم " أو بـ " فيها " والجملةُ كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب ". قال الشيخ: " ولا تُسَمَّى جملةً؛ لأنَّ التقدير: خلقها كائناً لكم فيها دفءٌ، أو خَلَقها لكم كائناً فيها دِفْءٌ " قلت " قد تقدَّم الخلاف في تقدير متعلِّق الجارِّ إذا وقع حالاً أو صفةً أو خبراً: هل يُقَدَّرُ فِعْلاً أو اسماً؟ ولعلَّ أبا البقاء نحا إلى الأولِ، فتسميتُه له جملةً صحيحٌ على هذا.

والدِّفْء اسمٌ لِما يُدْفَأُ به، أي: يُسْخَنُ، وجمعُه أدْفاء، ودَفِئَ يومُنا فهو دَفِىءٌ، ودَفِئَ الرجلُ يَدْفَأُ دَفاءَةً ودَفَاءً فهو دَفْآنُ، وهي دَفْأَى، كسَكْران وسَكْرى. والمُدْفَأة بالتخفيفِ والتشديد: الإِبلُ الكثيرةُ الوبرِ والشحمِ. قيل: الدِّفْءُ: نِتاجُ الإِبل وألبانُها، وما يُنْتفع به منها.

وقرأ زيدُ بنُ عليّ " دِفٌ " بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الفاء، والزهريُّ كذلك، إلا أنه شَدَّدَ الفاء، كأنه أجرى الوَصْلَ مُجْرى الوقفِ نحو قولِهم: " هذا فَرُخّْ " بالتشديد وقفاً. وقال صاحب " اللوامح ": " ومنهم مَنْ يُعَوِّضُ من هذه الهمزةَ فَيُشَدِّد الفاءَ، وهو أحدُ وجهَيْ حمزةَ بنِ حبيب وقفاً ". قلت: التشديد وَقْفاً لغةٌ مستقلةٌ، وإن لم يكن ثَمَّ حَذْفٌ من الكلمةِ الموقوفِ عليها.

قوله: { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } " مِنْ " هنا لابتداء الغاية، والتبعيض هنا ضعيفٌ. قال الزمخشري: فإن قلت: تقديمُ الظرفِ مُؤْذِنٌ بالاختصاصِ، وقد يُؤْكَلُ مِنْ غيرِها. قلت: الأكل منها هو الأصلُ الذي يعتمده الناسُ، وأمَّا غيرُها مِن البَطِّ والدَّجاج ونحوِها من الصَّيْد فكغيرِ المُعْتَدِّ به ".