الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ }

قوله تعالى: { أَوَ لَمَْ }: قرأ الأخَوان " تَرَوْا " بالخطاب جَرْياً على قولِه { فَإِنَّ رَبَّكُمْ } ، والباقون بالياءِ جَرْياً على قوله: { أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ }. وأمَّا قولُه:أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ } [النحل: 79] فقرأه حمزةُ أيضاً بالخطاب، ووافقه ابنُ عامر فيه، فحصل من مجموعِ الآيتين أنَّ حمزةَ بالخطاب فيهما، والكسائيَّ بالخطابِ في الأول والغَيْبة في الثاني، وابنَ عامر بالعكس، والباقون بالغيبة فيهما.

فأمَّا توجيهُ الأولى فقد تقدَّم، وأمَّا الخطابُ في الثانية فَجَرْياً على قولهوَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [النحل: 78]. وأمَّا الغيبةُ فَجَرْياً على قولهوَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [النحل: 73]. وأمَّا تفرقَةُ الكسائيِّ وابنِ عامرٍ بين الموضعين فجمعاً بين الاعتبارين وأنَّ كلاً منهما صحيحٌ.

قوله: { مِن شَيْءٍ } هذا بيانٌ لِما في قوله: { مَا خَلَقَ ٱللَّهُ } فإنها موصولةٌ بمعنى الذي. فإن قلتَ: كيف يُبَيِّنُ الموصولُ -وهو مبهمٌ- بـ " شيء " وهو مبهمٌ، بل أَبْهَمُ ممَّا قبله؟ فالجواب أنَّ شيئاً قد اتضح وظهر بوصفِه بالجملة بعدَه، وهي { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ }.

قال الزمخشري: " وما موصولة بـ { خَلَقَ ٱللَّهُ } وهو مبهمٌ، بيانُه { مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ }. وقال ابن عطية: " وقولُه { مِن شَيْءٍ } لفظٌ عامٌّ في كل ما اقتضَتْه الصفةُ مِنْ قوله { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } فظاهر هاتين العبارتين أنَّ جملةَ { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } صفة لشيء، وأمَّا غيرُهما فإنه قد صَرَّح بعدمِ كونِ الجملةِ صفةً فإنه قال: " والمعنى: من شيءٍ له ظِلٌ من جبلٍ وشجرٍ وبناءٍ وجسمٍ قائمٍ. وقوله: { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } إخبارٌ عن قوله { مِن شَيْءٍ } ليس بوصفٍ له، وهذا الإِخبارُ يَدُلُّ على ذلك الوصفِ المحذوفِ الذي تقديرُه: هو له ظلٌّ " وفيه تكلُّفٌ لا حاجةَ له، والصفةُ أبينُ. و { مِن شَيْءٍ } في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصولِ، أو متعلقٌ بمحذوفٍ على جهةِ البيان، أي: أَعْني مِنْ شيء.

والتفيُّؤُ: تَفَعَّل مِنْ فاء يَفِيْءُ، أي: رَجَع، و " فاء " قاصرٌ، فإذا أُريد تعديتُه عُدِّي بالهمزة كقوله تعالى:مَّآ أَفَآءَ/ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } [الحشر: 7] أو بالتضعيف نحو: فَيَّأ اللهُ الظلَّ فَتَفَيَّأ. وَتَفَيَّأ مطاوِعٌ فهو لازمٌ. ووقع في شعر أبي تمام متعدياً في قوله:
2973- طَلَبَتْ ربيعَ ربيعةَ المُمْرَى لها   وتفيَّأَتْ ظلالَه مَمْدودا
واخْتُلِفَ في الفَيْءِ فقيل: هو مُطْلَقُ الظِّلِّ سواءً كان قبل الزَّوالِ أو بعده، وهو الموافِقُ لمعنى الآيةِ ههنا. وقيل: " ما كان [قبل] الزوال فهو ظلٌّ فقط، وما كان بعده فهو ظِلٌّ وفَيْءٌ " ، فالظلُّ أعمُّ، يُرْوَى ذلك عن رؤبَة ابن العجاج. وقيل: بل يختصُّ الظِّلُّ بما قبل الزوالِ والفَيْءُ بما بعده. قال الأزهري: " تَفَيَّؤُ الظلالِ رجوعُها بعد انتصافِ النهارِ، فالتفيُّؤُ لا يكون إلا بالعَشِيّ، وما انصرفَتْ عنه الشمسُ، والظلُّ ما يكون بالغداة، وهو ما لم تَنَلْهُ [الشمس] قال الشاعر:

السابقالتالي
2 3 4