الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }

قوله تعالى: { وَٱلْخَوْفِ }: العامَّةُ على جَرِّ " الخوف " نسقاً على " الرجوع " ، ورُوي عن أبي عمرو نصبُه، وفيه أوجه، أحدها: أن يُعطف على " لباس ". الثاني: أن يُعْطَفَ على موضعِ " الجوع "؛ لأنه مفعولٌ في المعنى للمصدرِ. التقدير: " أَنْ أَلْبَسَهم الجوعَ والخوفَ " ، قاله أبو البقاء، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللباسَ اسمُ ما يُلْبَسُ، وهو استعارةٌ بليغةٌ كما سأنبِّهك عليه. الثالث: أن ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ قاله أبو الفضل الرازي. [الرابع: أن يكونَ حَذْفِ مضافٍ، أي:] ولباس الخوف، ثم حُذِف وأقيم [المضافُ إليه] مُقامَه قاله الزمخشري.

ووجه الاستعارةِ ما قاله الزمخشري، فإنه قال: " فإن قُلْتَ، الإِذاقةُ واللباسُ استعارتان فما وجهُ صحتِهما؟ والإِذاقةُ المستعارةُ مُوَقَّعَةٌ على اللباس المستعار فما وجهُ صحةِ إيقاعِها عليه؟ قلت: الإِذاقَةُ جَرَتْ عندهم مَجْرَى الحقيقةِ لشيوعِها في البلايا والشدائد وما يَمَسُّ الناسَ منها، فيقولون، ذاقَ فلانٌ البؤْسَ والضُّرَّ، وإذاقة العذابُ، شَبَّه ما يُدْرِكُ مِنْ أثرِ الضررِ والألمِ بما يُدْرِكُ مِنْ طَعْمِ المُرِّ والبَشِع، وأمَّا اللباسُ فقد شبَّه به لاشتمالِه على اللابسِ ما غَشِيَ الإِنسانَ والتبس به من بعض الحوادث. وأمَّا إيقاعُ الإِذاقةِ على لباسِ الجوعِ والخوفِ فلأنه لمَّا وقع عبارةً عَمَّا يُغْشَى منهما ويُلابَسُ، فكأنه قيل: فأذاقهم ما غَشِيهم من الجوعِ والخوفِ. ولهم في هذا طريقان، أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له كما نَظَرَ إليه ههنا، ونحوُه قول كثيِّر:
3020- غَمْرُ الرِّداءِ إذا تَبَسَّم ضاحكاً   غَلِقَتْ لضَحْكَتِهِ رِقابُ المالِ
استعار الرداءَ للمعروفِ لأنه يَصُون عِرْضَ صاحبِه صَوْتَ الرداءِ لِما يُلْقى عليه، ووصفَه بالغَمْرِ الذي هو وصفُ المعروفِ والنَّوال، لا وصفُ الرداء، نظراً إلى المستعار له. والثاني: أن ينظروا فيه المستعار كقوله:
3021- يُنازعني رِدائي عَبْدُ عَمْرٍو   رُوَيْدَك يا أخا عمرِو بن بكر
ليَ الشَّطْرُ الذي ملكَتْ يميني   ودونَك فاعْتَجِر منه بِشَطْرِ
أراد بردائِه سيفَه ثم قال: " فاعتجِرْ منه بِشَطْر " فنظر إلى المستعارِ في لفظِ الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال: " فكساهُمْ لباسَ الجوعِ والخوف " ، ولقال كثِّير: " ضافي الرداءِ إذا تبسَّم ". انتهى. وهذا نهايةُ ما يُقال في الاستعارة.

وقال ابن عطية: " لمَّا باشرهم ذلك صار كاللباس، وهذا كقول الأعشى:
3022- إذا ما الضَّجِيْعُ ثنى جِيْدَها   تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا
ومثلُه قولُه تعالى:هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ/ لَّهُنَّ } [البقرة: 187]، ومثلُه قولُ الشاعر:
3022- وقد لَبِسَتْ بعد الزبيرِ مُجاشِعٌ   لباسَ التي حاضَتْ ولن تَغْسِل الدَّما
كأنَّ العارَ لمَّا باشرهم ولصِقَ بهم كأنهم لَبِسُوه ".

وقوله: " فأذاقهم " نظيرُ قولِه تعالى:ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [الدخان: 49]، ونظيرُ قولِ الشاعر:

السابقالتالي
2