الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ }

قوله تعالى: { أَوْدِيَةٌ }: هو جمعُ وادٍ، وجمعُ فاعِل على أَفْعِلَة، قال أبو البقاء: " شاذٌّ، ولم نَسْمَعْه في غيرِ هذا الحرف، ووجهُه: أنَّ فاعِلاً قد جاء بمعنى فَعِيل، وكما جاء فَعِيل وأفْعِلَة كجَرِيْب وأَجْرِبَة، وكذلك فاعِل " ، قلت: قد سُمع فاعِل وأفْعِلة في حرفين آخرين، أحدُهما: قولهم: جائز وأجْوِزَة، والثاني: ناحِية وأَنْحِية.

قوله: " بقَدَرها " فيه وجهان، أحدُهما " أنه متعلِّقٌ بـ " سالَتْ " ، والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لـ " أَوْدية ". وقرأ العامَّةُ بفتح الدال، وزيد بن علي والأشهب العقيلي وأبو عمرو في روايةٍ بسكونها، وقد تقدَّم ذلك في سورة البقرة.

و " احتمل " بمعنى حَمَل فافْتَعَلَ بمعنى المجرد، وإنما نكَّر الأودية وعَرَّف السيلَ؛ لأنَّ المطر يَنْزِل في البِقاع على المناوبة، فتسيلُ بعضُ أوديةِ الأرضِ دونَ بعضٍ، وتعريفُ السيل لأنه قد فُهِم من الفعل قبله وهو " فسالَتْ " وهو لو ذُكِرَ لكان نكرةً، فلمَّا اُعيد اُعِيدَ بلفظِ التعريفِ نحو: " رايت رجلاً فأكرمت الرجلَ " [والزَّبَد: وَضَرُ الغَلَيان وخَبَثُه] قال النابغة:
2852- فما الفُراتُ إذا هَبَّ الرياحُ له   تَرْمي غوارِبُه العِبْرَيْنِ بالزَّبَدِ
وقيل: هو ما يَحْتمله السَّيلُ مِنْ غُثاءٍ ونحوه، وما يرمي به [على] ضفَّته من الحَباب. وقيل: هو ما يَطْرحُه الوادي إذا جاش ماؤه، وارتفعت أمواجُه. وهي عباراتٌ متقاربة. والزُّبَد: المستخرجُ من اللبن. قيل: مشتقٌّ مِنْ هذا لمشابَهَتِه إياه في اللون، ويقال: زَبَدْتُه زَبْداً، أي: أعطيته مالاً، يُضرب به المثلُ في الكثرةِ، وفي الحديث: " غُفِرَتْ له ذنوبُه وإن كانت مِثْلَ زَبَد البحر ".

قوله: { وَمِمَّا يُوقِدُونَ } هذا الجارُّ [خبر مقدَّمٌ، ومبتدَؤه " زَبَدٌ " ]. و " مثلُه " صفةُ المبتدأ، والتقدير: ومن الجواهرِ التي هي كالنحاس والذهب والفضة زَبَدٌ، أي: خَبَثٌ مثلُه، أي: مثلُ زَبَدِ الماء، ووجهُ المماثلةِ: أنَّ كلاًّ منهما ناشئٌ مِن الأَكْدار.

وقَرَأَ الأخَوانِ وحفصٌ " يُوقِدُوْن " بالياء من تحت، أي: الناسُ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ على الخطاب.

و " عليه " متعلقٌ بـ " يُوْقِدون ". وأمَّا " في النار " ففيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بـ يوقِدون، وهو قول الفارسيِّ والحوفيِّ وأبي البقاء. الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف، أي: كائناً أو ثابتاً، قاله مكي وغيره. ومنعوا تعلُّقه بـ " يُوقِدُون " لأنهم زعموا أنه لا يُوْقَد على شيء إلا وهو في النار، وتعليقُ حرفِ الجر بـ " يُوْقِدون " يقتضي تخصيصَ حالٍ من حالٍ أخرى. وهذا غيرُ لازمٍ. قال أبو علي: " قد يُوْقَد على الشيء وإن لم يكنْ في النارِ، كقولِه تعالى:فَأَوْقِدْ لِي يٰهَامَانُ عَلَى ٱلطِّينِ }

السابقالتالي
2