الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ }

قوله تعالى: { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ }: في " سواءٌ " وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ مقدَّمٌ، و { مَّنْ أَسَرَّ } و { وَمَنْ جَهَرَ } هو المبتدأ، وإنما بم يُثَنَّ الخبر لأنه في الأصل مصدرٌ، وهو هنا بمعنى مُسْتَوٍ، وقد تقدَّم الكلامُ فيه أوَّلَ هذا الموضوعِ، و " منكم " على هذا حالٌ من الضمير المستتر في " سواءٌ " لأنه بمعنى " مُسْتَوٍ ". قال أبو البقاء: " ويَضْعُفُ أن يكونَ حالاً من الضمير في " أَسَرَّ " أو " جَهَرَ " لوجهين، أحدُهما: تقديمُ ما في الصلةِ على الموصولِ أو الصفة على الموصوف، والثاني: تقديمُ الخبرِ على " منكم " ، وحقُّه أن يقعَ بعده ". قلت: [قوله] " وحقُّه أن يقع بعده " يعني بعده وبعد المبتدأ، وإلا يَصِرْ/ كلامُه لا معنى له.

والثاني: أنه مبتدأ، وجاز الابتداءُ به لوصفِه بقوله " مِنْكم " وأَعْرَبَ سيبويه " سواءٌ عليه الخيرُ والشرُّ " كذلك. وقولُ ابن عطية أن سيبويه ضَعَّفَ ذلك بأنه ابتداءٌ بنكرة، غَلَطٌ عليه.

قوله: { وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على " مُسْتَخْفٍ " ، ويُرادُ بـ " مَنْ " حينئذٍ اثنان، وحَمَلَ المبتدأَ الذي هو لفطةُ " هو " على لفظِها فأفرده، والخبرَ على معناها فثَنَّاه. الوجه الثاني: أن يكونَ عطفاً على " { مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ } لا على مُسْتَخْفٍ وحدَه. ويُرَجِّح هذين الوجهين ما قاله الزمخشري. قال رحمه الله: " فإنْ قلت: كان حقُّ العبارة أن يُقال: " ومَنْ هو مُسْتَخْفٍ بالليل ومَنْ هو ساربٌ بالنهار؛ حتى يتناولَ معنى الاستواء المستخفي والساربُ، وإلاَّ فقد تناول واحداً هو مُسْتَخْفٍ وساربٌ. قلت: فيه وجهان، أحدٌهما: أنَّ قولَه " وساربٌ " عطفٌ على { مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ } لا على " مُسْتَخْفٍ ". والثاني: أنه عَطْفٌ على " مُسْتَخْفٍ " ، إلا أنَّ " مَنْ " في معنى الاثنين، كقوله:
2843-......................   نَكُنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحِبانِ
كأنه قيل: سواءٌ منكم اثنان: { مُسْتَخْفٍ بِٱلْلَّيْلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَار }. قلت: وفي عبارتِه بقوله " كان حقُّ العبارةِ كذا " سوءُ أدب. وقوله: كقولِه " نَكُنْ مثلَ مَنْ " يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضِهم مع ذئبٍ يخاطبه:
تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتَني ولا تَخُونُني   نَكُنْ مِثْل مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحِبان
وليس في البيت حَمْلٌ على اللفظِ والمعنى، إنما فيه حَمْلٌ على المعنى فقط، وهو مقصودُه. وقوله: " وإلا فقد تناول واحداً هو مُسْتَخْفٍ وسارِبٌ " لو قال بهذا قائلٌ لأصاب الصوابَ، وهو مذهبُ ابنِ عباس ومجاهدٍ، ذهبا إلى أن المتسخفي والسارب شخصٌ واحد، يَسْتخفي بالليل ويَسْرُب بالنهار ليرى تصرُّفَه في الناسِ.

الثالث: أن يكونَ على حذف " مَنْ " الموصولة، أي: ومَنْ هو سارِبٌ، وهذا إنما يَتَمَشَّى عند الكوفيين، فإنهم يُجيزون حَذْفَ الموصول، وقد تقدَّم استدلالُهم ذلك.

والسَّارِب: اسمُ فاعلٍ مِنْ سَرَبَ يَسْرُبُ، أي: تَصَرَّف كيف شاء. قال:
2844- أنَّى سَرَبْتِ وكنتِ غيرَ سَرُوْبِ   وتُقَرِّبُ الأحلامُ غيرَ قريبِ
وقال آخر:
2845- وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ   ونحنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فهو سارِبُ
أي: متصرِّفٌ كيف تَوَجَّه، لا يدفعه أحدٌ عن مَرْعى، يَصِفُ قومه بالمَنَعَة والقوة.