الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }

قوله تعالى: { يُغَاثُ ٱلنَّاسُ }: يجوز أن تكون الألف عن واو، وأن تكون عن ياء: إمَّا مِن الغَوْث وهو الفَرَج، وفعلُه رباعيٌّ يُقال: أغاثَنا اللَّه، مِن الغَوْث، وإمَّا مِن الغَيْث وهو المطرُ يُقال: " غِيْثَتِ البلاد " ، أي: مُطِرَتْ، وفعلُه ثلاثي يقال: غاثنا اللَّه مِن الغَيْث. وقالت أعرابية: " غِثْنا ما شِئْنا " ، أي: مُطِرْنا ما أَرَدْنا ".

قوله: { يَعْصِرُونَ } قرأ الأخوان " تَعْصِرون " بالخطاب، والباقون بياء الغيبة، وهما واضحتان، لتقدُّم مخاطبٍ وغائب، فكلُّ قراءةٍ تَرْجِعُ إلى ما يليق به. و " يَعْصِرون " يحتمل أوجهاً، أظهرُها: أنه مِنْ عَصَرَ العِنَبَ أو الزيتون أو نحو ذلك. والثاني: أنه مِنْ عَصَر الضَّرْع إذا حَلَبَه. والثالث: أنه من العُصْرة وهي النجاة، والعَصَر: المَنْجى. وقال أبو زبيد في عثمان رضي اللَّه عنه:
2800 ـ صادِياً يَسْتغيث غيرَ مُغَاثٍ   ولقد كان عُصْرَة المَنْجودِ
ويَعْضُد هذا الوجهَ مطابقةُ قولِه { فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ } يُقال: عَصَره يَعْصِرُه، أي: أنجاه.

وقرأ جعفر بن محمد والأعرج: " يُعْصَرون " بالياء من تحت، وعيسى البصرة بالتاء من فوق، وهو في كلتا القراءتين مبنيٌّ للمفعول. وفي هاتين القراءتين تأويلان، أحدهما: أنها مِنْ عَصَره، إذا أنجاه، قال الزمخشري: " وهو مطابِقٌ للإِغاثة ". والثاني: ـ قاله قطرب ـ أنها من الإِعصار، وهو إمطار السحابة الماءَ كقولِه:وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ } [النبأ: 14]. قال الزمخشري: " وقرىء " يُعْصَرون ": يُمْطَرون مِنْ أَعْصَرَتِ السَّحابة، وفيه وجهان: إمَّا أن يُضَمَّن أَعْصَرت معنىٰ مُطِرَتْ فيُعَدَّى تعديتَه، وإمَّا أن يقال: الأصل: أُعْصِرَتْ عليهم فَحَذَفَ الجارَّ وأوصل الفعلَ [إلى ضميرهم، أو يُسْنَدُ الإِعصارُ إليهم مجازاً فجُعِلوا مُعْصَرين " ].

وقرأ زيد بن علي: " تِعِصِّرون " بكسر التاء والعين والصادِ مشددَّة، وأصلها تَعْتصرون فأدغم التاء في الصاد، وأتبع العينَ للصاد، ثم أتبع التاء للعين، وتقدَّم تحريره فيأَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ } [يونس: 35].

ونقل النقاش قراءةَ " يُعَصِّرون " بضم الياء وفتح العين وكسر الصادِ مشددةً مِنْ " عَصَّر " للتكثير. وهذه القراءةُ وقراءةُ زيدٍ المتقدمة تحتملان أن يكونا مِن العَصْر للنبات أو الضرع، أو النجاة كقول الآخر:
2801 ـ لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ   كنت كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري
أي: نجاتي.