الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ }

قوله تعالى: { إِذْ قَالَ }: في العاملِ فيه أوجهٌ، أظهرها: أنه منصوبٌ بـقَالَ يٰبُنَيَّ } [يوسف: 5]، أي: قال يعقوب: يا بُنَيَّ، وقتَ قولِ يوسفَ له كيت وكيت، وهذا أسهلُ الوجوهِ، إذ فيه إبقاءُ " إذ " على كونِه ظرفاً ماضياً. وقيل: الناصبُ له " الغافلين " قاله مكي. وقيل: هو منصوبٌ بـ " نَقُصُّ " ، أي: نَقُصُّ عليك وقتَ قولِه كيت وكيت، وهذا فيه إخراجُ " إذ " عن المضيِّ وعن الظرفية، وإن قَدَّرْتَ المفعولَ محذوفاً، أي: نَقُصُّ عليك الحالَ وقتَ قولِه، لزم إخراجها عن المُضِيّ. وقيل: هو منصوبٌ بمضمر، أي: اذكر. وقيل: هو منصوب على أنه بدلٌ مِنْ " أَحْسَنَ القصص " بدلُ اشتمال. قال الزمخشري: " لأنَّ الوقتَ يَشْمل على القصص وهو المقصوص ".

قوله: { يٰأَبتِ } قرأ ابن عامر بفتح التاء، والباقون بكسرِها. وهذه التاءُ عوضٌ من ياء المتكلم، ولذلك لا يجوز الجمعُ بينهما إلا ضرورةً، وهذا يختصُّ بلفظتين. يا أبت، ويا أَمَتِ ولا يجوز في غيرهما من الأسماء لو قلت: " يا صاحِبَتِ " لم يَجُز البتة، كما اختصَّتْ لفظةُ الأمِّ والعمِّ بحكمٍ في نحو " يا بن أُمّ ". ويجوز الجمعُ بين هذه التاءِ وبين كلٍ مِنَ الياءِ والألفِ ضرورةً كقوله:
2734 ـ يا أَبَتا عَلَّكَ أو عَساكا   
وقول الآخر:
2735 ـ أيا أَبَتا لا تَزَلْ عندَنا   فإنَّا نخافُ بأنْ نُخْتَرَمْ
وقول الآخر:
2736 ـ أيا أبتي لا زِلْتَ فينا فإنَّما   لنا أَمَلٌ في العيشِ ما دُمْتَ عائِشا
وكلام الزمخشري يُؤْذِنُ بأنَّ الجمعَ بين التاءِ والألفِ ليس ضرورةً فإنه قال: " فإن قلت: فما هذه الكسرةُ؟ قلت: هي الكسرةُ التي كانت قبل الياءِ في قولِك " يا أبي " فَزُحْلِقَتْ إلى التاء لاقتضاءِ تاءِ التأنيثِ أن يكونَ ما قبلها مفتوحاً. فإن قُلْتَ: فما بالُ الكسرةِ لم تَسْقُطْ بالفتحة التي اقْتَضَتْها التاءُ، وتبقى التاءُ ساكنة؟ قلت: امتنع ذلك فيها لأنها اسمٌ، والأسماءُ حقُّها التحريكُ لأصالتِها في الإِعراب، وإنما جاز تسكينُ الياء وأصلُها أن تُحَرَّك تخفيفاً لأنها حرف لين، وأمَّا التاءُ فحرفٌ صحيحٌ نحو كاف الضمير، فلزم تحريكُها. فإنْ قلت: يُشْبه الجمعُ بين هذه التاءِ وبين هذه الكسرةِ الجمعَ بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه؛ لأنها في حكم الياءِ إذا قلتَ: يا غلامِ، فكما لا يجوزُ " يا أبتي " لا يجوز " يا أبتِ ". قلت: الياء والكسرةُ قبلها شيئان، والتاءُ عوضٌ من أحد الشيئين وهو الياءُ، والكسرةُ غيرُ مُتَعَرَّضٍ لها، فلا يُجْمَعُ بين العِوَض والمُعَوَّض منه، إلا إذا جُمِعَ بين التاءِ والياءِ لا غير. ألا ترى إلى قولهم: " يا أبتا " مع كونِ الألفِ فيه بدلاً من الياء كيف جاز الجمعُ بينها وبين التاء، ولم يُعَدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوض منه؟ فالكسرة أبعدُ من ذلك.

السابقالتالي
2 3 4