الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ }

قوله تعالى: { حَتَّىٰ }: ليس في الكلامِ شيءٌ تكون " حتى " غايةً له، فمِنْ ثَمَّ اختلف الناسُ في تقدير شيءٍ يَصِحُّ تَغْيِيَتُه بـ " حتى ": فقدَّره الزمخشري: " وما أَرْسَلْنا مِنْ قبلك إلا رجالاً فتراخى نَصْرُهُمْ حتى ". وقَدَّره القرطبي: " وما أَرْسَلْنا من قبلك يا محمدُ إلا رجالاً لم نعاقِب أُمَمَهم بالعقاب حتى إذا ". وقدَّره ابن الجوزي: " وما أَرْسَلْنا مِنْ قبلك إلا رجالاً فَدَعَوا قومهم فكذَّبوهم وطال دعاؤُهم وتكذيبُ قومِهم حتى إذا ". وأَحْسَنُها ما قدَّمْتُه.

وتَصَيَّد ابن عطية شيئاً من معنى قوله: " أفلم يسيروا " فقال: " ويتضمَّن قولُه " أفلم يسيروا " إلى " مِنْ قبلِهم " أنَّ الرسلَ الذين بعثهم اللَّه من أهل القرىٰ دَعَوْهم فلم يُؤْمنوا بهم حتى نَزَلَتْ بهم المَثُلاتُ فصبروا في حَيِّز مَنْ يُعْتبر بعاقبته، فلهذا المُضَمَّنِ حَسُن أن تَدْخُل " حتى " في قوله: " حتى إذا ". قال الشيخ: " ولم يتلخَّصْ لنا من كلامِه شيءٌ يكون ما بعد " حتى " غايةً له، لأنه عَلَّق الغايةَ بما ادَّعَى أنه فَهِمَ ذلك مِنْ قوله: " أفلم يَسيروا ". الآية ". قلت: دَعَوْهم فلم يؤمنوا هو المُغَيَّىٰ.

قوله: { كُذِبُواْ } قرأ الكوفيون " كُذِبوا " بالتخفيف والباقون بالتثقيل. فأمَّا قراءةُ التخفيف فاضطربت أقوالُ الناسِ فيها، ورُوي إنكارها عن عائشة رضي الله عنها قالت: " معاذَ اللَّه لم يكنِ الرسلُ لِتَظُنُّ ذلك بربها " وهذا ينبغي أن لا يَصِحَّ عنها لتواتُرِ هذه القراءة.

وقد وَجَّهها الناسُ بأربعة أوجه، أجودُها: أن الضميرَ في " وظنُّوا " عائدٌ على المُرْسَل إليهم لتقدُّمهم في قوله:كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [يوسف: 109]، ولأن الرسلَ تَسْتدعي مُرْسَلاً إليه. والضمير في " أنهم " و " كُذِبوا " عائد على الرسل، أي: وظنَّ المُرْسَل إليهم أنَّ الرسَلَ قد كُذِبوا، أي: كذَّبهم مَنْ أُرْسِلوا إليه بالوحي وبنصرهم عليهم.

الثاني: أنَّ الضمائرَ الثلاثةَ عائدة على الرسل. قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه " حتى إذا اسْتَيْئَسوا من النصر وظنُّوا أنهم قد كُذِبوا، أي: كَذَّبَهم أنفسُهم حين حَدَّثَتْهم أنهم يُنْصَرون أو رجاؤُهم لقولهم رجاءٌ صادق ورجاءٌ كاذب، والمعنىٰ: أن مدَّة التكذيب والعداوةِ من الكفار، وانتظارَ النصر من اللَّه وتأميلَه قد تطاولت عليهم وتمادَتْ، حتىٰ استشعروا القُنوط، وتَوَهَّموا ألاَّ نَصْرَ لهم في الدنيا فجاءهم نَصْرُنا " انتهىٰ/ فقد جعل الفاعلَ المقدر: إمَّا أنفسُهم، وإمَّا رجاؤُهم، وجعل الظنَّ بمعنى التوهم فأخرجه عن معناه الأصلي وهو تَرَجُّحُ أحدِ الطرفين، وعن مجازه وهو استعمالُه في المُتَيَقَّن.

الثالث: أنَّ الضمائرَ كلَّها أيضاً عائدة على الرسل، والظنُّ على بابه من الترجيح، وإلى هذا نحا ابن عباس وابن مسعود وابن جبير، قالوا: والرسل بَشَرٌ فَضَعُفوا وساءَ ظَنُّهم، وهذا ينبغي ألاَّ يَصِحَّ عن هؤلاء فإنها عبارة غليظة على الأنبياء عليهم السلام، وحاشىٰ الأنبياء من ذلك، ولذلك رَدَّتْ عائشة وجماعةُ كثيرة هذا التأويلَ، وأعظموا أن تُنْسَبَ الأنبياء إلى شيء مِن ذلك.

السابقالتالي
2 3 4