الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ }

قوله تعالى: { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ }: العامَّةُ على فَتْح ياءِ المضارعة من جَرم ثلاثياً. وقرأ الأعمشُ وابنُ وثاب بضمِّها مِنْ أجرم. وقد تقدم أنَّ " جَرَمَ " يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل كسب، فيقال: جَرَم زيدٌ مالاً نحو: كَسَبه، وجَرَمْتُه ذَنْباً، أي: كَسَبَتْه إياه فهو مثلُ كَسَب، وأنشد الزمخشري على تعدِّيه لاثنين قولَ الشاعر:
2698 ـ ولقد طَعَنْتُ أبا عُيَيْنَة طعنَةً   جَرَمَتْ فَزارةُ بعدها أن يَغْضَبوا
فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول، والثاني هو: أن يُصيبكم أي: لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابةَ العذاب. وقد تقدم أن جَرَم وأَجْرم بمعنىً، أو بينهما فرق. ونسب الزمخشري ضمَّ الياءِ مِنْ أجرم لابن كثير.

والعامَّةُ أيضاً على ضم لام " مثلُ " رفعاً على أنه فاعل " يُصيبكم " ، وقرأ مجاهد والجحدري بفتحها، وفيها وجهان، أحدهما: أنها فتحة بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة، وإنما بُني على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن كقوله تعالىٰ:إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [الذاريات: 23] وكقوله:
2699 ـ لمَ يَمْنَعِ الشُّرْبَ منها غيرَ أَنْ نَطقَتْ   حَمامةٌ في غُصون ذات أَوْقالِ
وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدةِ في الأنعام. والثاني: أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة للإِعراب، والفاعلُ على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام، أي: يصيبكم العذاب إصابةً مثلَ ما أصابَ.

قوله: { بِبَعِيدٍ } أتىٰ بـ " بعيد " مفرداً وإن كان خبراً عن جمعٍ لأحد أوجهٍ: إمَّا لحَذف مضاف تقديرُه: وما إهلاك قومٍ، وإمَّا باعتبار زمان، أي: بزمانٍ بعيد، وإما باعتبار مكان، أي: بمكان بعيد، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرِهما، أي: بشيءٍ بعيد، كذا قدَّره الزمخشري، وتبعه الشيخ، وفيه إشكالٌ من حيث إنَّ تقديرَه بزمان يلزم فيه الإِخبارُ بالزمان عن الجثَّة. وقال الزمخشري أيضاً: " ويجوز أن يُسَوَّىٰ في " قريب " و " بعيد " و " قليل " و " كثير " بين المذكر والمؤنث لورودِها على زِنَةِ المصادر التي هي كالصَّهيل والنهيق ونحوهما ".