الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ }

قوله تعالى: { لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ }: فيه أقوالٌ، أحدها: أنه استثناءٌ منقطع، وذلك أن تَجْعَلَ عاصماً على حقيقته، ومَنْ رَحِم هو المعصوم، وفي " رَحِم " ضميرٌ مرفوعٌ يعود على اللَّه تعالىٰ، ومفعولُه ضميرُ الموصولِ وهو " مَنْ " حُذِف لاستكمالِ الشروط، والتقدير: لا عاصمَ اليومَ البتةَ مِنْ أمر اللَّه، لكن مَنْ رَحِمه اللَّه فهو معصوم. الثاني: أن يكونَ المرادُ بـ " مَنْ رَحِم " هو الباري تعالى كأنه قيل: لا عاصمَ اليومَ إلا الراحمَ. الثالث: أن عاصماً بمعنى مَعْصوم، وفاعِل قد يجيءُ بمعنىٰ مفعول نحو: ماء دافق، أي: مدفوق، وأنشدوا:
2666 ـ بطيءُ القيامِ رخيمُ الكلا   مِ أَمْسى فؤادي به فاتِنا
أي مفتوناً، و " مَنْ " مرادٌ بها المعصومُ، والتقدير: لا معصومَ اليومَ مِنْ أَمْرِ اللَّه إلا مَنْ رحمه اللَّه فإنه يُعْصَم. الرابع: أن يكون " عاصم " هنا بمعنى النَّسَب، أي: ذا عِصْمة نحو: لابن وتامر، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم، والمرادُ به هنا المَعْصوم.

وهو على هذه التقاديرِ استثناءٌ متصلٌ، وقد جعله الزمخشري متصلاً لمَدْرك آخرَ، وهو حذفُ مضافٍ تقديرُه: لا يعصمك اليومَ معتصِمٌ قط مِنْ جبلٍ ونحوِه سوى معتصمٍ واحد، وهو مكان مَن رحمهم اللَّه ونجَّاهم، يعني في السفينة ".

وأمَّا خبرُ " لا " فالأحسنُ أن يُجْعل محذوفاً، وذلك لأنه إذا دلَّ عليه دليلٌ وَجَبَ حذفُه عند تميم، وكَثُر عند الحجاز، والتقدير: لا عاصمَ موجودٌ. وجَوَّز الحوفي وابن عطية أن يكون خبرُها هو الظرف وهو اليوم. قال الحوفي: " ويجوز أن يكونَ " اليوم " خبراً فيتعلَّق قالاستقرار، وبه يتعلق { مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ }. وقد رَدَّ أبو البقاء ذلك فقال: " فأمَّا خبرُ " لا " فلا يجوز أن يكونَ " اليوم "؛ لأنَّ ظرفَ الزمان لا يكون خبراً عن الجثة، بل الخبر { مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } و " اليوم " معمولُ { مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ }.

وأمَّا " اليومَ " و { مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } فقد تَقدَّم أن بعضهم جَعَل أحدَها خبراً، فيتعلَّقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمنَّه الواقعُ خبراً. ويجوز في " اليوم " أن يتعلَّقَ بنفس { مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } لكونِه بمعنىٰ الفعل. وجَوَّز الحوفي أن يكون " اليوم " نعتاً لـ " عاصم " ، وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعِه خبراً عن الجثث.

وقُرىء { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } مبنياً للمفعول، وهي مقويةٌ لقولِ مَنْ يَدَّعي أنَّ " مَنْ رَحِم " في قراءة العامة المرادُ به المرحوم لا الراحم، كما تقدَّم تأويلُه. ولا يجوز أن يكون " اليوم " ولا { مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } متعلِّقين بـ " عاصم " وكذلك الواحد منهما؛ لأنه كان يكون الاسمُ مطوَّلاً، ومتى كان مطوَّلاً أُعْرِبَ، ومتى أُعرب نُوِّن، ولا عبرةَ بخلاف الزجاج: حيث زعم أن اسمَ " لا " معربٌ حُذِفَ تنوينُه تخفيفاً.