الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ }

قوله تعالى: { رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ }: يجوز في الجارِّ أيضاً أن يكونَ نعتاً لـ " رحمة " وأن يكونَ متعلقاً بـ " آتاني ".

قوله: { فَعُمِّيَتْ } قرأ الأخوان وحفص بضم العين وتشديد الميم، والباقون بالفتح والتخفيف. فأما القراءة الأولى فأصلها: عَمَاها اللَّهُ عليكم، أي: أَبْهمهما عقوبةً لكم، ثم بُني الفعل لما لم يُسَمَّ فاعلُه، فحُذِفَ فاعلُه للعلمِ به وهو اللَّه تعالىٰ، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرحمة مُقامه، ويدل على ذلك قراءةُ أُبَيّ بهذا الأصل " فعماها اللَّهُ عليكم " ، ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن وعليّ والسُّلَمي " فعماها " من غير ذِكْرِ فاعلٍ لفظي، ورُوي عن الأعمش وابن وثاب " وعُمِّيَتْ " بالواو دون الفاء.

وأمَّا القراءة الثانية فإنه أسند الفعل إليها مجازاً. قال الزمخشري: " فإن قلت: ما حقيقته؟ قلت: حقيقته أنَّ الحجةَ كما جُعِلَتْ بصيرةً ومُبْصرة جُعلت عمياء؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتدي ولا يَهْدي غيرَه، فمعنى " فَعَمِيَتْ عليكم البَيِّنَةُ ": فلم تَهْدِكم كما لو عَمِي على القوم دليلُهم في المفازَةِ بقُوا بغيرِ هادٍ ".

وقيل: هذا من باب القلب، وأصلها فَعَمِيْتُم أنتم عنها كما تقول: أدخلت القلنسوة في رأسي، وأدخلت الخاتم في إصبعي وهو كثيرٌ، وتقدم تحريرُ الخلافِ فيه، وأنشدوا على ذلك:
2654 ـ ترى الثورَ فيها مُدْخِلَ الظلِّ رأسَه   ............................
قال أبو علي: " وهذا مما يُقْلَبُ، إذ ليس في إشكال، وفي القرآنفَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } [إبراهيم: 47]، وبعضهم يُخَرِّج البيت على الاتساعِ في الظرف. وأمَّا آيةُ إبراهيم فَأَخْلَفَ يتعدَّى لاثنين، فأنت بالخيار: أن تضيفَ إلى أيِّهما شِئْتَ فليس من باب القلب. وقد رَدَّ بعضُهم كونَ هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى بـ " عن " دون " على " ، ألا ترى أنك تقول: " عَمِيْتُ عن كذا " لا " على كذا ".

واختُلِفَ في الضمير في " عُمِّيَتْ " هل هو عائد على البيِّنة فيكونَ قولُه: " وآتاني رحمة " جملة معترضة بين المتعاطفين، إذ حقُّه { عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ... فَعُمِّيَتْ }. وإن قيل بأنه عائد على الرحمة فيكون قد حُذف من الأول لدلالة الثاني، والأصل: على بينة من ربي فَعُمِّيَتْ. قال الزمخشري: " وآتاني رحمة بإتيان البيِّنة، على أن البيِّنة في نفسها هي الرحمة. ويجوز أن يريدَ بالبينة المعجزة، وبالرحمة النبوَّةَ. فإن قلت: فقوله: " فعُمِّيَتْ " ظاهر على الوجه الأول فما وجهُه على الوجه الثاني، وحقُّه أن يقال: فَعَمِيَتَا؟ قلت: الوجهُ أن يُقَدَّر: فعُمِّيَتْ بعد البينة، وأن يكون حَذَفَه/ للاقتصار على ذِكْرِه مرةً ".

السابقالتالي
2