الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ }

قوله تعالى: { أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ }: فيها أوجهٌ، أحدُها: أن تكون مخففةً من الثقيلة، و " لا تَعْبُدوا " جملةُ نهيٍ في محلِّ رفعٍ خبراً لـ " أنْ " المخففةِ، واسمُها على ما تقرَّر ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ. والثاني: أنها المصدريةُ الناصبة، ووُصِلَتْ هنا بالنهي ويجوزُ أَنْ تكون " لا " نافيةً، والفعلُ بعدها منصوبٌ بـ " أَنْ " نفسها، وعلى هذه التقادير فـ " أَنْ ": إمَّا في محل جر أو نصب أو رفع، فالنصبُ والجرُّ على أنَّ الأصل: لأنْ لا تَعْبدوا، أو بأن لا تعبدوا، فلمَّا حُذِفَ الخافضُ جرىٰ الخلافُ المشهور، والعامل: إمَّا " فُصِّلَتْ " وهو المشهور، وإمَّا " أُحْكِمَتْ " عند الكوفيين، فتكون المسألة من الإِعمال، لأن المعنىٰ: أُحْكِمَتْ لئلا تَعْبدوا أو بأن لا تعبدوا أو فُصِّلَتْ لأنْ لا تعبدوا، أو بأن لا تعبدوا. وقيل: نصب بفعل مقدر تقديره ضَمَّن آيَ الكتابِ أن لا تعبدوا، فـ " أنْ لا تعبدوا " هو المفعولُ الثاني لـ " ضَمَّن " والأولُ قام مقام الفاعل.

والرفعُ فمِنْ أوجه، أحدها: أنها مبتدأٌ، وخبرُها محذوفٌ فقيل: تقديرُه: مِن النظر أن لا تعبدوا إلا اللَّه. وقيل: تقديره: في الكتابِ أن لا تعبدوا إلا اللَّهَ. والثاني: خبرُ مبتدأ محذوف، فقيل: تقديرُه: تفصيلُه أن لا تعبدوا إلا اللَّه. وقيل: تقديرُه: هي أن لا تعبدوا إلا اللَّه. والثالث: أنه مرفوعٌ على البدل من " آياته " قال الشيخ: " وأما مَنْ أعربه أنه بدل من لفظ " آيات " أو مِنْ موضعها " قلت: يعني أنها في الأصل مفعولٌ بها/ فموضعُها نصبٌ وهي مسألةُ خلاف: هل يجوز أن يُراعىٰ أصلُ المفعولِ القائمِ مقامَ الفاعلِ فيُتبعَ لفظُه تارة وموضعُه أخرىٰ فيُقال: " ضُرِبَتْ هندٌ العاقلة " بنصب " العاقلة " باعتبار المحلِّ، ورفعِها باعتبار اللفظ، أم لا، مذهبان، المشهورُ مراعاةُ اللفظِ فقط.

والثالث: أن تكونَ تفسيريةً؛ لأن في تفصيلِ الآيات معنى القول، فكأنه قيل: لا تعبدوا إلا اللَّه أو أَمَرَكم، وهذا أظهرُ الأقوال؛ لأنه لا يُحْوج إلى إضمار.

قوله: " منه " في هذا الضمير وجهان: أحدهما ـ وهو الظاهرُ ـ أنه يعودُ على اللَّه تعالىٰ، أي: إنني لكم مِنْ جهة اللَّه نذيرٌ وبشير. قال الشيخ: " فيكون في موضع الصفةِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائن من جهته ". وهذا على ظاهره ليس بجيد؛ لأن الصفةَ لا تتقدمُ على الموصوف فكيف تُجعلِ صفةً لـ " نذير "؟ كأنه يريد أنه صفةٌ في الأصلِ لو تأخَّر، ولكنْ لمَّا تقدَّم صارَ حالاً، وكذا صَرَّح به أبو البقاء، فكان صوابه أن يقول: فيكون في موضع الحال، والتقدير: كائناً مِنْ جهته. الثاني: أنه يعودُ على الكتاب، أي: نذيرٌ لكم مِنْ مخالفته وبشيرٌ منه لمَنْ آمن وعمل صالحاً.

وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ أيضاً وجهان، أحدهما: أنه حال من " نذير " ، فيتعلَّق بمحذوف كما تقدم. والثاني: أنه متعلق بنفس " نذير " أي: أُنْذركم مِنْه ومِنْ عذابِه إنْ كفرتم، وأبشِّرُكم بثوابه إنْ آمنتم. وقدَّم الإِنذار لأنَّ التخويف أَهَمُّ إذ يحصُل به الانزجار.