الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ }

قوله تعالى: { كِتَابٌ }: يجوز أن يكون خبراً لـ " ألر " أَخْبر عن هذه الأحرفِ بأنها كتابٌ موصوفٌ بـ كيتَ وكيتَ/ وأن يكون خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: ذلك كتابٌ، يدلُّ على ذلك ظهوره في قوله تعالىٰ:ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } [البقرة: 2]، وقد تقدَّم في أولِ هذا التصنيف ما يكفيك في ذلك.

قوله: { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } في محلِّ رفعٍ صفةً لـ " كتاب " ، والهمزةُ في " أُحْكِمَتْ " يجوز أن تكونَ للنقل مِنْ " حَكُمَ " بضم الكاف، أي: صار حكيماً بمعنىٰ جُعِلَتْ حكيمة، كقوله تعالىٰ:تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ } [لقمان: 2]. ويجوز أنْ يكونَ من قولهم: " أَحْكَمْتُ الدابة " إذا وَضَعْتَ عليها الحَكَمَةَ لمَنْعِها من الجِماح كقول جرير:
2633 ـ أبني حَنِيْفَةَ أَحْكِموا سُفَهاءَكمْ   إني أخافُ عليكمُ أَنْ أَغْضبا
فالمعنى أنها مُنِعَتْ من الفساد. ويجوز أَنْ يكونَ لغير النقل، مِن الإِحكام وهو الإِتقان كالبناء المُحْكَمِ المُرْصَفِ، والمعنى: أنهى نُظِمَتْ نَظْماً رصيناً متقناً.

قوله: { ثُمَّ فُصِّلَتْ } " ثم " على بابها مِن التراخي لأنها أُحكمَتْ ثم فُصِّلَتْ بحسب أسبابِ النزول. وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وزيد ابن علي وابن كثير في روايةٍ " فَصَلَتْ " بفتحتين خفيفةَ العين. قال أبو البقاء: " والمعنىٰ: فَرَقَتْ، كقوله:فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ } [البقرة: 249]، أي: فارق ". وفَسَّر هنا غيرُه بمعنى فَصَلَتْ بين المُحِقِّ والمُبْطِل وهو أحسنُ. وجعل الزمخشري " ثم " للترتيب في الإِخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان فقال: " فإن قلت: ما معنىٰ " ثم "؟ قلت: ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال، كما تقول: هي مُحْكَمَةٌ أحسنَ الإِحكام ثم مُفَصَّلةٌ أحسنَ التفصيل، وفلانٌ كريمٌ الأصل ثم كريمُ الفعل " وقُرِىء أيضاً: " أحْكَمْتُ آياتِه ثم فَصَّلْتُ " بإسناد الفعلين إلى تاء المتكلم ونَصْبِ " آياته " مفعولاً بها، أي: أحكمتُ أنا آياتِه ثم فَصَّلْتُها، حكى هذه القراءةَ الزمخشري.

قوله: { مِن لَّدُنْ } يجوز أن تكونَ صفةً ثانية لـ " كتاب " ، وأن تكون خبراً ثانياً عند مَنْ يرى جوازَ ذلك، ويجوز أن تكون معمولةً لأحد الفعلين المتقدِّمين أعني " أُحْكِمَتْ " أو " فُصِّلَتْ " ويكون ذلك من بابِ التنازع، ويكون من إعمال الثاني، إذ لو أَعْمل الأولَ لأضمر في الثاني، وإليه نحا الزمخشري في [قوله]: " وأن يكون صلةَ " أُحْكِمت " و " فُصَّلَتْ " ، أي: من عندِ أحكامُها وتفصيلُها، وفيه طباق حسن لأن المعنىٰ: أحكمها حكيم وفصَّلها، أي: شَرَحها وبيَّنها خبيرٌ بكيفيات الأمور ". قال الشيخ: " لا يريد أنَّ " مِنْ لدن " متعلقٌ بالفعلين معاً من حيث صناعةُ الإِعراب بل يريد أن ذلك من بابِ الإِعمال فهي متعلقةٌ بهما من حيث المعنىٰ " وهو معنىٰ قولِ أبي البقاء أيضاً " ويجوز أن يكونَ مفعولاً، والعاملُ فيه " فُصِّلَتْ ".