قوله تعالى: { أَن يُفْتَرَىٰ }: فيه وجهان أحدهما: أنه خبرٌ " كان " تقديرُه: وما كان هذا القرآن افتراء، أي: ذا افتراء، إذ جُعِل نفسُ المصدر مبالغةً، أو يكونُ بمعنى مُفْترىٰ. والثاني: زعم بعضهم أنَّ " أنْ " هذه هي المضمرة بعد لامِ الجحود، والأصل: وما كان هذا القرآنُ ليُفْترىٰ، فلمَّا حُذِفَتْ لامُ الجحود ظهرت " أن ". وزعم أن اللامَ و " أنْ " يتعاقبان، فتُحْذف هذه تارة، وتَثْبُت الأخرىٰ. وهذا قولٌ مرغوبٌ عنه، وعلى هذا القولِ يكون خبر " كان " محذوفاً، وأنْ وما في حَيِّزها متعلقةٌ بذلك الخبر، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك محرراً. و " مِنْ دون " متعلقٌ بـ " يُفْتَرىٰ " والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرٌ عائد على القرآن. قوله { وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ } " تَصْديق " عطف على خبر كان، ووقعت " لكن " أحسنَ موقع إذ هي بين نقيضين: وهما التكذيبُ والتصديقُ المتضمِّن للصدق. وقرأ الجمهور " تصديق " و " تفصيلَ " بالنصب وفيه أوجهٌ، أحدُها: العطف على خبر " كان " وقد تقدَّم ذلك، ومثله:{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ } [الأحزاب: 40]. والثاني: أنه خبر " كان " مضمرة تقديره: ولكن كان تصديقَ، وإليه ذهب الكسائي والفراء وابن سعدان والزجاج. وهذا كالذي قبله في المعنىٰ. والثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله لفعل مقدر، أي: وما كان هذا القرآنُ أن يُفْترىٰ، ولكن أُنزل للتصديق. والرابع: أنه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدر أيضاً. والتقدير: ولكن يُصَدِّق تصديقَ الذي بين يديه من الكتب. وقرأ عيسى بن عمر: " تَصْديقُ " بالرفع، وكذلك التي في يوسف. ووجهُه الرفعُ على خبر مبتدأ محذوف، أي: ولكن هو تصديق، ومثله قوله الشاعر:
2597 ـ ولستُ الشاعرَ السَّفْسَافَ فيهمْ
ولكن مِدْرَهُ الحربِ العَوانِ
برفع " مِدْرَه " على تقدير: أنا مِدْره. وقال مكي: " ويجوز عندهما ـ أي عند الكسائي والفراء ـ الرفع على تقدير: ولكن هو تصديق " ، قلت: كأنه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءة. وزعم الفراء وجماعةٌ أن العرب إذا قالت: " ولكن " بالواو آثَرَتْ تشديد النون، وإذا لم تكن الواو آثرت التخفيفَ. وقد وَرَدَ في قراءات السبعة التخفيفُ. وقد وَرَدَ في قراءات السبعة التخفيف والتشديد نحو { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ } [البقرة: 102] { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [الأنفال: 17]. قوله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } فيه أوجه أحدها: أن يكون حالاً من " الكتاب " وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه لأنه مفعولٌ في المعنىٰ. والمعنىٰ: وتفصيل الكتاب منتفياً عنه الرَّيْب. والثاني: أنه مستأنفٌ فلا محلَّ له من الإِعراب. والثالث: أنه معترضٌ بين " تصديق " وبين { مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } إذ التقديرُ: ولكن تصديق الذين بين يديه مِنْ رب العالمين.