الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }

قوله تعالى: { هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ }: في " هنالك " وجهان، الظاهرُ بقاؤه على أصلِه مِنْ دلالته على ظرف المكان، أي: في ذلك الموقفِ الدَّحْض والمكان الدَّهِش. وقيل: هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة، ومثلههُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [الأحزاب: 11]، أي: في ذلك الوقت وكقوله:
2593 ـ وإذا الأمورُ تعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ   فهناك يَعْترفون أينَ المَفْزَعُ
وإذا أمكنَ بقاءُ الشيءِ على موضوعِه فهو أَوْلىٰ.

وقرأ الأخَوان " تَتْلو " بتاءَيْن منقوطتين من فوق، أي: تطلُب وتتبَع ما أسلفَتْه مِنْ أعمالها، ومن هذا قوله:
2594 ـ إنَّ المُريبَ يَتْبَع المُريبا   كما رأيت الذِّيبَ يتلو الذِّيبا
أي: يَتْبَعه ويَتَطَلَّبه. ويجوز أن يكونَ من التلاوة المتعارفة، أي: تقرأ كلُّ نفسٍ ما عَمِلَتْه مُسَطَّراً في صحف الحفظة لقوله تعالىٰ:يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49]، وقوله:وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ٱقْرَأْ كِتَٰبَك } [الإسراء: 13].

وقرأ الباقون: " تَبْلو " مِن البَلاء وهو الاختبار، أي: يَعْرف عملَها: أخيرٌ هو أم شر. وقرأ عاصم في روايةٍ " نبلو " بالنون والباءِ الموحدة، أي: نختبر نحن. و " كل " منصوب على المفعول به. وقوله: " وما أَسْلَفَتْ " على هذه القراءةِ يحتمل أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض، أي: بما أسْلَفَتْ، فلمَّا سقط الخافض انتصبَ مجرورُه كقوله:
2595 ـ تمرُّون الديار ولم تعوجوا   كلامُكمُ عليَّ إذنْ حَرامُ
ويحتمل أن يكونَ منصوباً على البدل من " كل نفس " ويكون من بدلِ الاشتمال. ويجوز أن يكون " نَبْلو " من البلاء وهو العذاب، أي: نُعَذِّبها بسبب ما أَسْلَفَتْ.

و " ما " يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً أو نكرةً موصوفة، والعائدُ محذوفٌ على التقدير/ الأول والآخِر دون الثاني على المشهور.

وقرأ ابن وثاب " ورِدُّوا " بكسر الراء تشبيهاً للعين المضعفة بالمعتلَّة، نحو: " قيل " و " بيع " ، ومثله:
2596 ـ وما حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبا حُلَمائِنا   ........................
بكسر الحاء، وقد تقدَّم بيانُ ذلك بأوضحَ من هذا.

وقوله: { إِلَى ٱللَّهِ } لا بدَّ من مضاف، أي: إلى جزاء الله، أو موقفِ جزائه. والجمهور على " الحق " جَرَّاً. وقرىء منصوباً على أحد وجهين: إمَّا القطعِ، وأصلُه أنه تابعٌ فقُطع بإضمارِ " أمدح " كقولهم: الحمدُ للَّهِ أهلِ الحمد " ، وإمَّا أنه مصدر مؤكد لمضمونِ الجملةِ المتقدمةِ وهو { وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } وإليه نحا الزمخشري، قال: " كقولك: " هذا عبد الله الحق لا الباطل " على التأكيد لقوله { وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ }. وقال مكي: " ويجوز نصبه على المصدر ولم يُقْرأ به " ، قلت: كأنه لم يَطَّلِعْ على هذه القراءة.

وقوله: { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } " ما " تحتمل الأوجه الثلاثة.