الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

قوله تعالى: { إِنَّمَا مَثَلُ }: هذه الجملةُ سِيْقَتْ لتشبيهِ الدنيا بنباتِ الأرض، وقد شَرَحَ الله تعالى وجهَ التشبيه بما ذكر. قال الزمخشري: " وهذا مِنْ/ التشبيهِ المركب، شُبِّهَتْ حالُ الدنيا في سرعةِ تَقَضِّيها وانقراضِ نعيمِها بعد الإِقبال بحالِ نبات الأرض في جَفَافه وذهابه حُطاماً بعدما التفَّ وتكاتَف وزيَّن الأرض بخضرتِه ورفيفه " ، قلت: التشبيهُ المركب في اصطلاح البيانيين: إمَّا أن يكون طرفاه مركبين، أي: تشبيه مركب بمركب كقول بشار بن برد:
2578 ـ كان مُثَارَ النَّقْعِ فوقَ رؤوسنا   وأسيافَنا ليلٌ تهاوىٰ كواكبُهْ
وذلك أنه يُشَبِّه الهيئةَ الحاصلةَ من هُوِيِّ أجرامٍ مشرقة مستطيلةٍ متناسبةِ المقدارِ متفرقةٍ في جوانبِ شيءٍ مظلم بليلٍ سقطت كواكبُه، وإمَّا أن يكونَ طرفاه مختلفَيْن بالإِفراد والتركيب. وتقسيماتُه في غير هذا الموضوع.

وقوله: { كَمَآءٍ } هو خبرُ المبتدأ، و " أنزلناه " صفةٌ لـ " ماء " ، و " من السماء " متعلقٌ بـ " أَنْزلناه " ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً من الضمير المنصوب. وقوله: " فاختلطَ به " في هذه الباءِ وجهان، أحدهما: أنها سببيَّةٌ. قال الزمخشري: " فاشتبك بسببه حتى خالط بعضُه بعضاً " ، وقال ابن عطية: " وَصَلَتْ فِرْقَةٌ " النباتَ " بقوله: " فاختلط " ، أي: اختلط النباتُ بعضُه ببعض بسبب الماء ". والثاني: أنها للمصاحبة بمعنى أنَّ الماءَ يجري مجرىٰ الغذاء له فهو مصاحبه. وزعم بعضُهم أن الوقفَ على قولِه: " فاختلط " على أن الفعلَ ضميرٌ عائد على الماء، وتَبْتَدىء { بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } على الابتداء والخبر. والضمير في " به " على هذا يجوز عَوْدُه على الماء، وأن يعود على الاختلاط الذي تضمنَّه الفعل، قاله ابن عطية. قال الشيخ: " الوقف على قوله: " فاختلط " لا يجوزُ، وخاصةً في القرآن لأنه تفكيكٌ للكلام المتصلِ الصحيح والمعنى الفصيحِ، وذهابٌ إلى اللُّغْز والتعقيد ".

قوله: { مِمَّا يَأْكُلُ } فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بـ " اختلط " وبه قال الحوفي. والثاني: أنه حالٌ من " النبات " وبه قال أبو البقاء، وهو الظاهرُ، والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة المستقرة، أي: كائناً أو مستقراً ممَّا يأكل. ولو قيل " مِنْ " لبيان الجنس لجاز. وقوله: " حتى " غايةٌ فلا بد لها من شيءٍ مُغَيَّا، والفعلُ الذي قبلها ـ وهو " اختلط " لا يصلح أن يكون مُغَيَّا لقصرِ زمنهِ.

فقيل: ثَمَّ فعل محذوف، أي: لم يزلِ النباتُ ينمو حتى كان كيت وكيت. وقيل: يُتَجَوَّزُ في " فاختلط " بمعنىٰ: فدامَ اختلاطُه حتى كان كيت وكيت. و " إذا " بعد " حتى " هذه تقدَّم التنبيهُ عليها.

السابقالتالي
2