الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ }

قوله تعالى: { يُسَيِّرُكُمْ }: قراءةُ ابنِ عامر مِن النَّشْر ضد الطيّ، والمعنىٰ: يُفَرِّقكم ويَبُثُّكم. وقرأ الحسن: " يُنْشِركم " مِنْ أَنْشَر، أي: أَحْيا وهي قراءةُ ابنِ مسعود أيضاً. وقرأ بعض الشاميين " يُنْشِّركم " بالتشديد للتكثير مِن النَّشْر الذي هو مطاوع الانتشار. وقرأ الباقون " يُسَيِّركم " من التَّسْيير، والتضعيفُ فيه للتعديةِ تقول: سار الرجل وسَيَّرْتُه أنا. وقال الفارسي: " هو تضعيفُ مبالغةٍ لا تضعيفُ تعديةٍ، لأنَّ العربَ تقول: " سِرْتُ الرجلَ وسيَّرته " ، ومنه قول الهذلي:
2575 ـ فلا تجزعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنت سِرْتها   فأولُ راضٍ سنةٍ مَنْ يَسِيْرُها
وهذا الذي قاله أبو علي غير ظاهر؛ لأن الأكثر في لسان العرب أنَّ " سار " قاصرٌ، فَجَعْلُ المضعفِ مأخوذاً من الكثير أَوْلَى. وقال ابنُ عطية: " وعلى هذا البيتِ اعتراضٌ حتى لا يكونَ شاهداً في هذا، وهو أن يكون الضميرُ كالظرفُ، كما تقول: " سِرْتُ الطريق ". قال الشيخ: " وأمَّا جَعْلُ ابن عطية الضميرَ كالظرفِ كما تقول: " سِرْتَ الطريقَ " فهذا لا يجوزُ عند الجمهور، لأنَّ " الطريقَ " عندهم ظرفٌ مختصٌّ كالدار فلا يَصِلُ إليها الفعلُ ـ غيرَ " دخلت " عند سيبويه، و " انطلقت " و " ذهبت " عند الفراء ـ إلا بوساطة " في " إلا في ضرورة، وإذا كان كذلك فضميرُه أَحْرى أَنْ لا يَتَعَدَّىٰ إليه الفعل ". وزعم ابن الطراوة أنَّ " الطريق " ظرفٌ غيرُ مختصٍ فيصلُ إليه الفعلُ بنفسه، وأباه النحاة.

قوله: { حَتَّىٰ إِذَا } " حتى " متعلقةٌ بـ " يُسَيِّركم ". وقد تقدَّم الكلامُ على " حتى " هذه الداخلةِ على " إذا " وما قيل فيها. قال الزمخشري: " كيف جَعَلَ الكونَ في الفلك غايةَ التسييرِ في البحر، والتسيُير في البحر إنما هو بالكون في الفُلْك؟ قلت: لم يجعلِ الكونَ في الفلك غايةَ التسيير، ولكنَّ مضمونَ الجملةِ الشرطيةِ الواقعةِ بعد " حتى " بما في حيِّزها كأنه قال: يُسَيِّركم حتى إذا وقعت هذه الحادثةُ فكان كيت وكيتَ مِنْ مجيء الريحِ العاصفةِ وتراكُمِ الأمواج والظن للهلاك والدعاء بالإِنجاء ".

وقرأ أبو الدَّرْدَاء وأمُّ الدرداء " في الفُلْكيّ " بياء النسب. وتخريجُها يَحْتمل وجهين، أحدهما: أن يُراد به الماءُ الغَمْرُ الكثيرُ الذي لا يَجْْري الفُلْكُ إلا فيه، كأنه قيل: كنتم في اللُّلجِّ الفُلْكِيِّ، ويكونُ الضمير في " جَرَيْنَ " عائداً على الفلك لدلالةِ " الفلكي " عليه لفظاً ولزوماً. والثاني: أن يكونَ من باب النسبةِ إلى الصفة لقولهم: " أَحْمَريّ " كقوله:
2576 ـ أَطَرَباً وأنت قِنَّسْرِيُّ   والدهرُ بالإِنسان دوَّارِيُّ

السابقالتالي
2 3